صلصال.. قصة قصيرة لمرفت البربري
جلس خلف مكتبه العاجي، يرتدي منظاره الفخم ويضع في فمه سيجاره الكوبي، خلفه تقف شامخة مكتبة تعج بالكتب مما يوحي بثقافته العالية، وتتناثر في زوايا الحجرة تحف تذكارية ابتاعها من كل بلد زارها في حفلات السجادة الحمراء.
خيم عليه الشرود وهو ممسك بقلمه، وأخذ يفكر في آخر مشهد سينهي به فيلمه الأخير والذي جهز له دعاية ستجعله فيلم الموسم، وستحطم إيراداته كل التوقعات، انهى آخر مشاهد فيلمه وارسله للمخرج كرسالة على (الواتساب).
كان هذا هو الكاتب الذي تمتلئ الشاشات بأفلامه ومسلسلاته، قلمه صلصالي لا يكتب فقط بل ينحت أعظم المنحوتات، كتاباته تعد تحف صنعت بحرفية فائقة.
محبرته حبرها عصارة احتراق عتمةٍ مخبوءة في ليل دامٍ، حصادها صدحُ أنين أجيال، وحرارة أنفاس حضارة تحتضر، تشظّت الحضارة على أوراقه، فاغتالت شظاياها مستقبل أمة تقزّمت أمامها الأساطير، وتهاوى أمام صلابتها رخامٌ بلّوري يعكس ظل الأمم، تماهى السحاب مع عناوين أفلامه، وتأرجح الهواء مع تعاريج حروفه، لمع نجمه على أرصفة المدينة وحاراتها، وكتب اسمه كوشم على أكتاف الصعاليك والبلطجية وفوق أنصال الأسلحة البيضاء، حار النقاد في وصف آثار افلامه على الأجيال، وقصفت أقلام الصحافيين الشرفاء المناوئين لأفكاره الهدامة، فقط اكتظت بأخباره الصحف المتخمةٌ أعمدتها بالنفاق، والتي يجتر أصحابها التملق اجترارا، يقذفون بنيران أقلامهم كل من ينال كاتبهم ويصفونه بالحسد والبغض وأنهم أعداء النجاح، نفق على سواحل الإبداع نوارس الموهبة وانطفأت لمعة أصابع الإلهام، على قيح تفاهات مشاهد أفلام هو كاتبها.
في يوم العرض الجماهيري للفيلم دخل الفنانون وصانعوا الفيلم وفرحتهم بإيرادات اليوم الأول التي تنبئ بالتفوق تملأ أوداجهم وعند الوصول لآخر مشهد، ضجت قاعة السينما، صراخا من المتفرجين..
كان الكاتب صاحب القصة الحقيقي يوزع كتابه موقعا مجانا باسم فاتنة تسير بجواره.
هيفاء باتت ليالٍ تحاول أن تغوي القمر بأهدابها الكثيفة وعيناها السمراوين، وبشرتها الندية وردية الرحيق لعله يمنحها من ضيائه أصابع تمسك بها أشعته فتغزل منها قصيدة تطير في الآفاق، تحلق مع الفراشات في سماء الشعر، فتلمع كنجمة بريقها يروي عيون الشعر وتكون في مصاف الشعراء.
ولكن ليلها كان ضنين الإلهام، وقمرها شحيح الضياء، كتبت القصيدة كشجرة مبتورة الأغصان، مصفرة الأوراق، إلهامها خريف زار شجيرة عنب غنية الاخضرار، فالتهم نضرتها وتركها عودًا بلا ثمر أو ورق، أبيات قصائدها مهجورة اللحن عقيمة المعنى، تتلقفها الفصول، فتداعب المطر عله يغيثها فينبت غصن الإلهام، وتهيم مع ورد الربيع، فلا ترتشف فراشات القصائد رحيق الابداع، حتى الصيف ما منحتها لياليه الرائعة نسمات تبثها الكلمات، التقته ذات مرة فانتقد عراء قصائدها من الفتنة، ولكنه أخبرها أن معه خرائط هداية موهبتها الحائرة، وأن نوافذ الإبداع سيزيل بعصاه السحرية غيماتها القابعة على شمس الإلهام، فلا حاجة للتعب ونسج خيوط واهية لأبيات قصائدها، وكعرّافة غجرية سيفك طلاسم اللغة، ويحل أحجيات الأغنيات الضائعة، وبسحره الخفي سيجعلها أميرة الشعراء، ومي القصائد، وفيروز النغمات، سيستبدلها بسندريلا التي ترتدي أجمل الفساتين، ولن تضيع فردة حذائها الزجاجية بل سيسحر بريقها المحافل، ولن يعرف اليأس طريق حروفها، ما دامت ستروي شرايين جيوبه بسيل نقودها.
اتفقا على أن يسد شروخ قصائدها ويقوم بترميمها، وأنه سيجعلها مُهر الرهان الفائز دائما وستفوز بكل السباقات، ما دامت ستطعم فرس إلهامه بسكر حنانها، وكان لها مما اتفقا عليه، ما طار بها مدا الأبداع الشاسعة، كانت روايته الممهورة باسمها أعظم هداياه، وعندما قل ماء موردها وحنانها، تكسرت سيقان إلهامه، فجفت ينابيع إبداعها، ذهب يبحث عن مورد، وراحت تسرق الحروف، وباتت تحلم بحقلِ ذي قطوف دانية تطولها أيدي قصائدها العرجاء، ورواياتها المبتورة.