علي الشيمي يكتب: تجربتي مع القصة الشاعرة.. ما أروع أن تجمع بين الحُسنَيَيْن!
القصة الشاعرة جنس أدبي مستقل، يجمع بين الشاعرية والنثرية في بوتقة واحدة، وتتوكأ بشدة على عصا الإبداع والإدهاش وروعة المطلع، وحسن التخلص، والتكثيف والرمزية، واتساع الدلالة، وإفساحُ المدلول جوهرُها، لم تأتِ لتعاديَ الأجناس الأدبية الأخرى؛ إنما لتكون لبنةً في صرح المحراب الأدبي؛ لاستعادة الريادة الأدبية العربية.
ويبقى مبدع القصة الشاعرة "كالماشي على حبل في السيرك" حٌرًّا مُدهِشًا، لا يُشعِرُ فقط، ولا يقُصُّ فقط، إنما يشعرُ قاصًّا، ويقصُّ شاعِرًا، نصُّهُ حمّالٌ أوجهًا عِدَّةٍ، يُولّي وجههُ شَطرَ الإبداعِ؛ فيحملهُ إلى الآفاقِ، ويعبُر به دُروبًا غيرَ مُعبّدَةٍ، يستخدمُ تراسُلَ الحواسِ وسيلةً من وسائله اللانهائيةِ، وكما قال مؤسس ورائد القصة الشاعرة محمد الشحات محمد:" ليس شرطا أن يكون مبدعها شاعرا أو قاصا؛ إنما الشرط أن يكون مبدعا مدهشا".
الآن وقد تخطت القصة الشاعرة مرحلة الاعتراف بعبقريتها، وأمسى الحديث عن فرضية وحتمية وجودها من فضول ونافلة القول، إلا أنه من باب التذكرة نقول: استحوذت روعتها وصلاحيتها لجميع الأغراض على السواء- على قلوب المحايدين الموضوعيين من النقاد وعلماء الأدب باتساع ورحابة دلالة كلمة الأدب، واتخذت لنفسها موقعا أدبيا استراتيجيا متميزا بين أشقائها من الأجناس الأخرى، وعقدت معاهداتها مع المدارس الأدبية المتنوعة الإحيائية البعثية والكلاسيكية والديوانية والمهجرية ومدرسة أبواب والمدرسة الرومانسية وشعر التفعيلة الحر والواقعية والنثرية والحداثوية وما بعدها، فهي زمكانية ماضية مضارعية مستقبلية متطورة، لا تقف عند حدود الزمن أو المكان حيثُ أسست؛ لتكون عالمية.
تنهل من فيض التجربة الإبداعية لمبدعها، وتتطلب خبرات ثقافية واسعة للتعامل مع نصها الثّريِّ الفائضِ موهبةً، حيث الأساطير الدفينة كالنفط في باطن الزمن الذي يتطلب خبراتٍ لتحديد موقعه، وخبراتٍ لاستخراجه، وخبراتٍ للفصل بين مشتقاته، وحيث الأحداث المحلية والعالمية الآنية اللحظية، إن القصة الشاعرة لهي الاستثمار الأمثل للخبرات عند مبدعها، وعند المتلقي المتعامل مع نصوصها، تجري كما جرى، ويجري، وسيجري النيل كوثرا متدفقا عذبا سلسبيلا متجددا لا يأبه لسدودٍ رعناءَ تشبه سدود الجمود عند ذوي العقول المتحجرة التي لا ترى في الظلام إلا تخيلاتها المريضة ، حيث ما زالوا يتصورون وجود "أبي رجل مسلوخة"، ورجل العفريت التي تشبه رجل الضأن، وغيرها من الخزعبلات التي ما زالت مترسخة في تصوراتهم فخاصموا الأجناس الأدبية مخاصمة مكابر، قبلوا الضّيم الواقع على أدبهم، ولو اتسعت آفاقهم لكان الأحرى بهم أن يتقبلوا كل ما هو جديد في الأجناس الأدبية المعاصرة، وكما قال الشاعر الكبير: محمود حسن عبد التواب: " كلما اتَّسعت ثقافة المبدع وأفقه وعالمه المعرفي والإنساني؛ ازداد تصالحه مع جميع الأشكال الأدبية".
"هم حتى الآن لا يعلمون أن سماء الإبداع تتسع لجميع الأجناس، ولكن لأنهم الأخوف على وجودهم يتعمدون التعتيم على كل ما هو جديد في عالم الأدب يحاربونه؛ فكما قيل: الإنسان عدو ما يجهل، وبعض النقاد يتحاملون على الأجناس الأدبية الجديدة، بل وأزعم أنهم كانوا يقفون أمامنا سدا منيعًا في جمودنا نحن أيضا لبعض الوقت، حتى إنهم لم يكتبوا- معظمهم - بموضوعية عمن تناولوا نصوصهم، فهم إما متحاملون وإما مجاملون.
إن الناقد الذي يكتب بحيدة تامة وموضوعية، وإنصاف عن مبدع حقيقي لهو العملة الصعبة في هذا الزمن، وكم تعجبني مقولة الشاعر الكبير محمود حسن عبد التواب: "يا حظَّه المبدع الذي يكتب عنه ناقد ليس في نفسه منه شيء "!...
تجربتي مع القصة الشاعرة:
عندما سمعتُ عن القصة الشاعرة من أخي الناقد عمرو الزيات أول مرةٍ.. قلت له ما القصة الشاعرة؟ فقال لي: هي جنس أدبي عربي جديد للمؤسس الشاعر محمد الشحات محمد، فقلت له: أريد أن أعرف المزيد، فقال لي: هي فن يجمع بين القصة والشعر، لكنه ليس بشعر وليس بقصة، حيث تكون القصة دفقة سردية تكتب على هيئة تفعيلات خليلية كاملة من أولها لآخرها مدورة مع الرمز وتكثيف الدلالة وتوظيف علامات الترقيم في تمثل المعنى، فقلت له: مثل شعر عمر ابن أبي ربيعة مثلا..؟ فقال لي: يا علي، لا ليس مثل شعر عمر بن أبي ربيعة، فشعر عمر بعضه أشبه بالشعر القصصي وبه حوار ودراما، لكن لا أقصد ذلك.
وقال لي: أنت مبدع، وستعرف كل شيء، وستستنبط بنفسك مهارات القصة الشاعرة لو قرأت هذا المقال، ودلّني على مجموعة قصص شاعرة للشاعر الرائد محمد الشحات محمد ومقالات كتبها أساتذة جامعيون ونقاد كبار على مستوى الوطن العربي، فقرأت، وأمعنت النظر، ووجدت أن ما كتب عن هذا الجنس الأدبي عظيم ورائد يمشي واثق الخطى مع هذا الفن، فولجت عالم القصة الشاعرة فشدّتني إليها، وقرأت نماذج من القصص الشاعرة، هذا التركيب الوصفي الدقيق، فهي كما قال مؤسسها شاعرة بذاتها، وكتبت أولى قصصي الشاعرة " انسكاب" ثم " لآلئ العرق الشفيف."
وبدأ الطريق يتضح أمامي شيئا فشيئا.. فأكملت مجموعتي الأولى التي اقترح الرائد عليّ أن أسميها " انسكاب" التي خرجت للنور على كفّيه الحانيتين اللتين لم تردّا طالبَ علمٍ أبدًا مكسور الخاطر، وعلّمنِي ما لم أكن أعلمُ من قبلُ، فوجدت قلمي يفيض حيث وجد بغيته في هذا الجنس الأدبي العربي.
ففيه الشعر متمثلا في الوزن ولكن لا قافية للمحافظة على روح النثرية والسردية، وفيه دفقة سردية، وفيه قصّ، وفيه شاعرية، وفيه إيجاز بالحذفِ يغني عنه السياق المقامي، وفيه الصور المبتكرة، واتساع الدلالة، والنهايات المفتوحة، والتكثيف، والرمزية، ومعالجة كافة القضايا المجتمعية تلميحا، واحترام الذات الإبداعية، وعالم آخر من الأخيلة، تجمع بين الأصالة العربية والمعاصرة الغربية الكلمات في القصة تشبه تعدد مجتمع الولايات المتحدة غير أن الانسجام في مفردات القصة الشاعرة في أعلى درجاته، تنظر إليها فتحسبها مفككة في بنيتها السطحية حيث لا تخاطب السطحيين بل هي الأشد تماسكا في بنيتها العميقة، فلا يتصدى لها إلا الناقد الحاذق..
لقد وجدتُ في القصة الشاعرة بتركيبها الوصفي بغيتي حيث الانطلاق كما قال الدكتور عبد الله رمضان:" من العبارة إلى الإشارة" حيث الخروج من ضيق العبارة إلى سعة المقام ورحابة الرمز والإشارة، ومن الروتين إلى التشويق والإثارة، ومِنْ السكينة والوقار إلى الشيطَنةِ والانبهار، ومن منطقة الاحتباس الحراري إلى مناطق الزلازل والبراكين.. إن منطقة القصة الشاعرة هي منطقة خارج الزمن وخارج المكان تلعب في منطقة الوعي واللاوعي وتصلّي في محراب الماورائيات بخشوع خلفَ إمامَها المؤسس الرائد الشاعر محمد الشحات محمد..
ومن أحدث نماذجي:" ظَمَأٌ..
أبَى الظّمآنُ أنْ تبتَلَّ فِي "يوليو" شِفَاهَ الشمسِ..، راحَ يُذيقُ فأسَ الجَارِ حَرَّ الأرضِ..، يُوئدُ حَدَّهَا المسنُونَ حَولَ القُطنِ..، مَرَّتْ فَوقَهُ كسحابةٍ سوداءَ أدخنَةُ احتراقِ منازِلِ "الفيروزِ" جارتِهمْ..، وَطالتْ كُوخَهُ..، غضبَتْ عُيونُ النَّارِ..؛ فازدحمَتْ شَرايينُ الأسَى في قريةِ البؤساءِ بالأحزانِ..،
مَا أقسَى فُؤادَ العُمدةِ البَلوَى!
أتَتْ سيّارةُ الإطفاءِ مُبطِئةً..؛ تُرشُّ الماءَ نِيلِيًّا أمامَ البابِ شَرقِيًا..؛
توكَّأَ عمُّنَا "سعفَانُ" فوقَ ضفافِ بحرِ اليأسِ رَيَّانا.."