لماذا يفسد السيد المسؤول؟
لماذا رغم كل الإجراءات التي اتخذتها الدولة في السنوات الأخيرة لمحاربة الفساد، وأدت إلى كشف هيئة الرقابة الإدارية عن عدد كبير من قضايا الفساد، التي كان أبطالَها مسؤولون كبار ومتوسطو القيمة في الجهاز الإداري للدولة، لا يزال بعض المسؤولين معرضين للوقوع في فخ الفساد؟ ولماذا أصلا يفسد السيد المسؤول؟ وهل كان المسؤولون الذين قبض عليهم في السبع سنوات السابقة من حكم الرئيس السيسي، شخصيات فاسدة بطبيعتها؟ أم فسدت في المرحلة الأخيرة من حياتها، بعد أن أصبحت في تلك المواقع القيادية؟
في محاولتي للإجابة عن تلك التساؤلات، قررت استبعاد فرضية أن يكون هؤلاء المسؤولون فاسدين من البداية، ونجحوا في إخفاء مظاهر فسادهم، وخداع الأجهزة المنوط بها التحري عنهم، وإعداد تقارير صلاحيتهم لتولي تلك المناصب. وقد انتهيت بعد ذلك إلى أن فساد أغلبهم، هو متغير جديد ظهر عليهم بعد توليهم المناصب القيادية وامتلاك سلطة كبيرة أفقدتهم صوابهم ببريقها ونفوذها وصلاحياتها.
وهذا لا يمنعنا من القول بأن الاستعداد للفساد -ربما- كان كامنًا في تكوينهم منذ فترة طويلة، ومنعهم من تفعيله، أنهم كانوا أقل شجاعة وأكثر خوفًا من العقاب والفضيحة. ولهذا فإن الفساد الطارئ على سلوك الشخصيات التي تم القبض عليها مؤخرًا في قضايا فساد، وهم على رأس عملهم ومن بينهم، وزير زراعة، ومحافظ، ونائب محافظ، قد نتج - في ظني- عن عوامل ذاتية، وعامل خارجي مهم. مع ضرورة إدراك أن العوامل الذاتية لا يمكن تفعيلها دون وجود العامل الخارجي الذي يقوم بدور المُحفز أو المُنشط لاستعدادات الفساد عند المسؤول.
من أبرز العوامل الذاتية المُسببة للفساد، شعور المسؤول بأنه أقل في المستوى المادي من بعض الذين يتعاملون معه، ويتمنون رضاه وخدمته بسبب منصبه المؤثرة إيجابًا وسلبًا على مصالحهم. وعند تلك النقطة، يبدأ السيد المسؤول في التفكير بأنه يمتلك الجاه والسلطة، دون امتلاك الثروة التي تضمن له ولأسرته حياة مرفهة، تناسب موقعه الوظيفي، وبخاصة بعد خروجه من الخدمة وترك المنصب. وهو يفكر على هذا النحو، رغم أن دخل هذا المسؤول الحلال من وظيفته، قادر على توفير حياة كريمة له ولأسرته، لو كان يتحلى بفضيلة القناعة والرضى.
ومن العوامل الذاتية أيضًا المُسببة لفساد السيد المسؤول، أن يسيطر عليه شعور بخيبة الأمل، بعد مرور العمر في الدراسة والتحصيل والعمل من أجل حياة مهنية ناجحة، ورعاية وخدمة أسرته وأولاده، دون أن يعيش حياته، ويستمتع بالمباهج والمتع واللذات التي تفتحت أبوابها أمامه بعد تولي منصبه. وهذا الشعور يصيبه في تلك المرحلة من عمره بالنهم الشديد، والسعي لأن يغرف في حاضره ومستقبله من كل متع الحياة قبل فوت الأوان. ولا متعة دون مال وثروة ضخمة؛ وبالتالي يجب الحصول على المال لتعويض ما فات وضمان وتأمين المستقبل بعد ترك المنصب.
وفي هذه اللحظة الدرامية التي يدور فيها صراع نفسي شديد داخل السيد المسؤول بين قيمه أو مخاوفه وبين الاستسلام لغواية الفساد، يظهر العامل الخارجي الذي يقوم باللعب على عقد المسؤول الشخصية ومركبات نقصه واحتياجاته الخاصة والعائلية، ومساعدته على انتهاز الفرصة، والاستهانة بالمخاطر والتبعات التي تترتب على سلوك هذا الطريق، وإغوائه المستمر بالمنافع والمكاسب التي سوف تعود عليه. وهذا العامل الخارجي يمكن أن نطلق عليه اسم "الواد محروس بتاع كل مسؤول"، الذي يجسد نموذجًا إنسانيًا شائع بيننا، ولا تخلو منه مؤسسة أو مصلحة حكومية في مصر.
وقد جسد شخصيته ببراعة الفنان عادل إمام في فيلم حمل عنوان "الواد محروس بتاع الوزير". وهو شخص ناعم، مبتسم دائمًا، يُجيد إسماع كل مسؤول ما يريد سماعه، ولسان حاله ومقاله دائمًا: "أحلام سيادتك أوامر". وهو أيضًا إنسان فهلوي بامتياز، يُجيد اللعب على كل الحبال، ولا غاية له إلا المكسب والربح والقرب من أصحاب النفوذ والسلطة، وتسخيرهم لتحقيق أهدافه. والواد محروس بتاع كل مسؤول لا يملك في الحقيقة مهارات علمية أو مهنية خارقة، ولا موهبة لديه سوى براعته في ممارسة سلوك "الشمشرجية"، واستعداده لتقديم كافة الخدمات "للسيد المسؤول الكبير"، بما فيها الخدمات التي لا يمكن لإنسان سَوي أخلاقيًا أن يقوم بها؛ فهو أراجوز للترفيه، وصبي خدمة في القعدات الحلوة،، ومشهلاتي ووسيط وسمسار على استعداد لبيع وشراء كل شيء، وتيسير مقابلات وتعاملات الزبون والمشتري، ولهذا فهو بؤرة فساد في كل مؤسسة، وكل سياق يوجد به. وبناء عليه فإن آفة وعلة الفساد الأولى في بلادنا ومؤسساتنا، هي الواد محروس بتاع كل مسؤول.
وإذا كانت أكثر آليات محاربة الفساد فاعلية ألا نسمح من البداية لشخص فاسد أو ضعيف الشخصية، وغير كفء بتولي مناصب قيادية في مؤسسات الدولة، فإن الآلية التي لا تقل عنها أهمية ألا نسمح بوجود "الواد محروس" بجانب أي مسؤول؛ لأنه جرثومة فساد وإفساد، وعامل حاسم في السقوط القيمي والأخلاقي للبشر، وفي تفعيل الاستعداد الكامن للفساد عند أي إنسان أو مسؤول.