الإثنين 25 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

النيل بين أحفاد أبرهة والنجاشي

الأربعاء 23/يونيو/2021 - 12:24 ص

شاءت إرادة الله أن تكون الموارد الطبيعية التي تمس حاجة جميع الناس لها، على الشيوع بين  الناس لا فضل لبعضهم على بعض فيها، كالهواء والأنهار والبحار، ولذا يذكرنا الخالق حتى لا ننساق خلف ما تسوّل به نفوسنا من محاولة تحويلها إلى ملكيات خاصة بأنه -جل وعلا- هو من خلقها، وهو قادر على أن يذهبها بزوالها أو بإفساد خاصية نفعها للناس لتتحول من نعمة إلى نقمة تمثل عبئا على الناس بعد أن كانت نعمة: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}. 

وتشير الآية بوضوح إلى أن الماء العذب الذي نشربه من النعم الكبرى التي امتن بها رب العالمين على خلقه الذين بلغتهم وأصبحت بين يديهم، وأن عليهم شكر هذه النعمة وعدم التدخل لتغيير ما أراده الله لها من عموم نفعها، ولم تشر الآية من قريب أو بعيد بتفضيل بعض الناس فيها على بعض أو قبولها للخصخصة ليتحكم بعضهم فيها دون بعض، وأن أي تصرف يخرجها عن عموم نفعها أو استعمالها على غير ما خلقت له يفسدها نفعها بأمر من الله، ويذكرنا ربنا في آية أخرى بما يدل على عموميّة نفع النعم العظيمة:{ا لَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ويقول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}، فماء السماء نزل لنا نحن البشر وليس لبعضنا فمن وصله حق له أن ينتفع به حتى لو سقط في أرض لا تخصه. 

ولذا لم يشترط الفقهاء لمشروعيّة الانتفاع بماء المطر أن ينزل في أرض مملوكة للمنتفع، وهذا الحكم المتعلق بإباحة ماء المطر لجميع من يصلهم ينطبق على الماء الخارج من الأرض،لأن الأصل فيه أنه ماء مطر استقر في باطن الأرض:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} غاية الأمر أن ماء الينابيع والعيون تكون مشاعا لمن جاورها فإن فاضت ووصلت إلى غيرهم حق لهم الانتفاع بها مثلهم، لذا قال رسولنا الأكرم: "النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ".

ومن المعلوم أن نهر النيل من الموارد الطبيعية التي لا دخل ولا فضل للناس فيها، ومنذ خلقه الله وهو يجري في دوله المعروفة بدول حوض النيل، لم ينازع أحد على مدار التاريخ كله أن من حق الجميع الانتفاع به، ولم تدّع دولة من دوله أنها المالكة له أو أنها أصيلة فيه وغيرها من الفروع، وكيف يكون ذلك وأصله في الجنة؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ وَالفُرَاتُ، وَأَمَّا البَاطِنَانِ: فَنَهَرَانِ فِي الجَنَّةِ، فَأُتِيتُ بِثَلاَثَةِ أَقْدَاحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ، فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ الفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ". 

وإذا ثبت أن حق الانتفاع بنهر النيل ثابت لدولة بلا نزاع، فيكون تصرف أي دولة من دوله تصرفًا يضر بالدول الأخرى اعتداء صريح على هذه الدول، والدولة الوحيدة التي يمكنها التصرف في ماء النيل من دون إضرار ببقية دوله هي مصر لا غير، ليس لكونها مالكة للنيل ولكنها دولة مصب ينتهي مساره على أرضها ولا يصل لدول بعدها، فإن بنت سدودًا أو شقت قنوات متفرعة عنه داخل أراضيها لم تعد هذه التصرفات بأي ضرر على دول النيل، بخلاف غيرها من دوله، فأي دولة بداية من السودان الشقيق إلى أي نقطة ينطلق منها النيل يجب أن يكون تصرف الدولة بالتنسيق مع الدول التي بعدها جهة الشمال، للوقوف على تأثير التصرف على كميّة الماء الواصلة إلى هذه الدول من عدمه. 

ولذا فإن قيام الجانب الإثيوبي ببناء سد من دون تنسيق مع جيرانها شمالًا؛ يعد اعتداء صريحًا منها على حقوق جيرانها وبخاصة مصر التي تقع في نهاية مسيرة النيل، فمن المعلوم أن التصرف الضاغط على المورد سواء أكان المورد مائيًا أو كهربيًا يزيد المورد ضعفًا كلما بعدنا عن نقطة التصرف، ولذا فإن تأثر السودان سلبا سيكون أقل من تأثر مصر، وكلاهما محظور لا ينبغي بحال أن يسمح به. 

والأدهى من ذلك أن تصدر التصريحات الاستفزازية المتتالية من الجانب الإثيوبي بدلًا عن استجابتها لمطالبات دولية للجلوس على مائدة التفاوض مع مصر والسودان للوصول إلى حل يُمكّن إثيوبيا من تحقيق الاستفادة المنشودة، مع ضمان عدم تأثر السودان ومصر في الحاضر أو المستقبل سلبا بعد تشغيل السد، وإذا كانت التصريحات السياسيّة لها إطارها السياسيّ وحساباته التي لا تخضع بالضرورة للمعايير الأخلاقية المستمدة من الدين الإسلامي أو المسيحيّ، فالسياسة ميدان مصالح بحتة، فإن تصريحات الحاج عمر رئيس المجلس الفيدرالي الإثيوبي، وهو من علماء الدين والتي تمادى فيها أكثر من السياسيين في بلاده، وتعرض فيها للسودان ومصر، وتحدث  حديثًا لا يليق بعالم يعرف قدر الإمام الأكبر شيخ الأزهر، فقد خلط بين الأمور واتهم فضيلة الإمام بعدم معرفة الحقيقة، وتحدث حديثًا يتعارض مع ما سبق ذكره من أدلة تدل على أن إثيوبيا ليس لها أي امتياز أو أولوية على ماء النيل، وأنه ليس لها إلا حق الانتفاع كغيرها من دول النيل، ولذا لا مجال ولا حاجة لأن يتحدث عالم دين ممتنًّا بأن النيل ينبع من إثيوبيا، وكأن إثيوبيا صاحبة فضل على دول الشمال! وإن لم يصرح بذلك، بل حاول تخفيف حدة ما وقع فيه حين تحدث عن انتفاع السودان ومصر، ولكن السياق يفهم منه كأن هذا الانتفاع هو من التكرم الإثيوبي، وهذا مرفوض وكلام غير دقيق يمكن أن يتحدث به رجال السياسة في بلاده ولكن لا ينبغي أن يتحدث به عالم دين. 

أما تذكيره لنا بأن إثيوبيا هي أرض النجاشي الملك العادل، وأن إثيوبيا لازالت دولة عدل، فواقع الأمر لا يشهد لتصريحات حاج عمر، وقد نسي أن إثيوبيا وإن كانت في تاريخها قد وجد بها النجاشي العادل، والذي أثنى عليه رسولنا الكريم واختار بلده لتكون محل هجرة صحابته الأول بعد أن زاد الخناق حولهم بمكة، مع أن النجاشي كان وقتها على المسيحية وليس الإسلام، وقد صدق فيه ما أخبر به رسولنا، حيث أكرم وفادة صحابة رسولنا، وأمّن مقامهم على أرض الحبشة، وهذه حقيقية لا ينكرها إلا جاحد، لكن على ما يبدو أن حاج عمر نسي أو تناسى أن أرض النجاشي العادل هي هي أرض أبرهة المجرم الذي جيّش الجيوش وتوجه ليهدم الكعبة المشرفة. 

والظاهر للعيان أن الحكومة الإثيوبية أقرب في نهجها إلى سيرة أبرهة وليس النجاشي، وكنا سنقول بأن إثيوبيا تسير على نهج النجاشي لو أنهم قدموا التطمينات اللازمة في اتفاق مضمون بمواثيق وضمانات دوليّة، وكنا سنقول بأن حاج عمر نفسه على سيرة جده النجاشي لو وجّه حديثًا يتفق وما دل عليه الشرع الذي يتبع دينه ويفتي الناس في ضوء أحكامه، لو وجه نصيحة إلى حكومة بلاده يطالب فيها بوقف التصرفات الاستفزازية لمصر والسودان، وقبول التفاوض للتوصل لاتفاق عادل يضمن مصلحة شعوب الدول الثلاث. 

وإلى أن يحدث هذا التحول من الحكومة الإثيوبية، وإلى أن يراجع حاج عمر موقفه ويعتذر عن إساءته لمصر والسودان وإمام المسلمين، فالأقرب إلى التعبير عن الواقع هو السير على نهج أبرهة وليس النجاشي، وإذا كان أبرهة قد فشل في هدم الكعبة، فليعلم أحفاده مالم يعودوا لنهج جدهم النجاشي أنهم يسيرون في طريق قد تجر المنطقة برمتها إلى أوجاع يصعب علاجها خلال عدة قرون قادمة، وبكل تأكيد ستكون بلاد أبرهة هي الخاسر الأكبر، فلتكن إثيوبيا على نهج النجاشي لنقول عنها بلاد النجاشي العادل وليس أبرهة المجرم. حفظ الله مصرنا وهدى الإثيوبيين لما يجنب المنطقة ويلات حروب لا تنقصنا.

تابع مواقعنا