ضواحي الجنوب (1-3)
كعادته كل يوم ينزل أدهم من منزله متجهًا إلى عمله في ذلك المكان الذي يبغضه كثيرًا، ويرى أنه لا يتناسب مع ذلك المؤهل الذي كان كثيرًا ما يتباهى به أمام أصدقائه، فيجد نفسه وكأنه من أحد أحياء ليفربول حينما ينطق مسمى كليته المستحدثة، ويظل يفكر يوميًّا في شيء واحد هل سيظل الحال كما هو عليه، ويدفعه الملل نحو الشيب في مكان لم يحبه على الإطلاق، أم سيحدث شيء ما يغير كل هذا.
عاهد نفسه بألا يخوض أي تجارب أخرى، تهان فيها كرامته تحت أي بند حتى إذا كانت أوضاعه المعيشية بين مطرقة الواقع وسندان العوز، إلا أن هموم الحياة كانت دائما أقوى منه، تلك الكلمات التي قرأها أدهم بإحدى الروايات ظلت محفورة في ذاكرته، فكان يحاول دائما تغيير حياته، ولكنه لا يستطيع بتذكرها من حين لآخر، حينما يقبل على روتين عمله الممل.
صباح ذلك اليوم قبل أدهم يد والدته الحنون، تلك السيدة التي غطى الشيب رأسها، ورغم كونه لم يخرج من رحمها، فإنه وجد فيها حنانًا فاض عليه طوال مشوار حياته منذ فقدان والدته ووالده في حادث ثأر أليم شهدته القرية وأثر فيها لعشرات السنين، وصل أدهم إلى عمله وحيّا الجميع قبل إلقاء كلمات عابرة على عم محروس، ذلك الرجل الذي لا يكل من الحديث معه كلما سنحت فرصة طيبة لذلك، فقد تعوّد أدهم أن تكون حياته مليئة بهؤلاء الذين يلقون بالطيبات على الجميع.
طلب أدهم فنجان قهوته الذي يفضل احتساءها في الصباح قبل الإفطار، حسب تعوُّده الذي تبغضه والدته الحنون نظرًا لأضرارها على الصحة، إلا أنه يلبي رغبتها بقضم قطعة من ساندوتش تعده له في الصباح، ويتعمد نسيان الأكل الذي تعده حرصًا على تجنب سخرية زملائه المعهودة كونه كبر على أن يكون تلميذًا، كما أن العمل لا يعطي فسحة في وقت "البريك"، إلا أنه كان يبتسم كلما قضم قطعة من الساندوتش، فهو لا يريد أن يغضب تلك السيدة الحنون.
بعد احتساء أدهم لقهوته المفضلة سرح قليلًا في ماضيه الذي لا يتذكر منه سوى فتاة صغيرة بوجه جميل وملابس ريفية بسيطة، وسعادته حينما يكون بالقرب منها، وذكريات تلك الأيام التي يحاول من أجلها العودة إلى الخلف، إلا إنه استيقظ على هاتفه المحمول ذي النغمة الرتيبة، وصوت جارته المملة "الحق عمتك تعبت وراحت المستشفى".