الأحد 24 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

في حب ما تبقى من الصحافة

الأحد 27/يونيو/2021 - 10:05 م

منذ أكثر من 15 سنة، كنت أقيم أنا وصديقي العزيز سامي عبد الراضي في شقة بالإيجار، في أيامنا الأولى من "الكحرتة" في عالم الصحافة، وفي ساعة مبكرة من صباح أحد الأيام رن هاتف "سامي" ولم يستيقظ، وبعدها رن هاتفي فوجدت رئيس القسم يطلب مني التوجه سريعًا إلى محافظة القليوبية لوقوع حادث تصادم كبير بين قطارين، وعرفت أنه هو من كان يتصل بـ "سامى"، وقتها كنا نتسابق كصحفيين للانفراد بتغطية الحوادث الكبرى ليلمع اسمنا في الجريدة في اليوم التالي، فالحوادث الكبرى هي من تصنع الأسماء.

شعر “سامى" بحركتي وأنا أرتدي ملابسي، سألني وهو مازال في السرير "في إيه؟" فأجبته" مفيش.. نام نام". وبالفعل أكمل سامي نومه، وأكملت أنا تغطيتي الصحفية، في اليوم التالي فكر “سامي" وخاض تجربة إنسانية رائعة مع ركاب نفس القطار. وتكررت مثل تلك الحكايات عشرات المرات بنا، مرة يسبقني ومرة أسبقه، وهكذا كانت حياتنا، نتنافس بالنهار ونتقاسم الطعام والمال والتعب والحزن والفرحة والحلم والصدمة في نهاية اليوم. والحقيقية أنها كانت طبيعة حياة مئات الصحفيين في تلك الفترة.

تذكرت تلك الحكايات عندما سألني زميل تخرج لتوه من قسم الصحافة بكلية إعلام القاهرة..هل انتهت مهمة الصحفي؟.. هل حل الفيس بوك وتويتر وإنستجرام وصفحات المسئولين والمشاهير محل الصحف والمواقع؟ وأصبح دور الصحفي أنه يتابع تلك الصفحات وينقلها على موقعه.

الحقيقة أنه أيا كانت الإجابة سواء بـ "نعم" أو "لا" أو "أوشكت على النفاد".. فالأمر عزيزي الزميل الصحفي يدعو إلى وقفة جادة. فكل مسئول وفنان ورياضي وشخصية عامة بنفسه أو بمساعدة فرق من تابعيه أصبحوا على دراية كاملة بفنيات العمل الصحفي، يعني يكتب الخبر على صفحته مصحوبًا بعنوان جذاب، وأحيانا يختار لك صورة معبرة وربما أيضا يبدأ الخبر ببداية مشوقة، وقد يستعين بخلفية في سياق الخبر، إذًا ماذا تركوا لنا؟

زمان كان القارئ ينتظر الجريدة المطبوعة للاطلاع على الأخبار في اليوم التالي، بعدها ظهرت المواقع الإخبارية، ثم ظهر الفيس بوك ليتحول كل مواطن إلى صحفي ينقل ما يشاء ويكتب ما يشاء على صفحته "صحافة المواطن"، ثم ظهرت "الليفات"، أي مواطن أي شخص يفتح كاميرا الموبايل وينقل على الهواء ما يحدث أمامه، مئات الصور والفيديوهات وآلاف من شهود العيان وملايين من التحليلات ومليارات من التعليقات، إذا ما هي الحاجة إلى الصحفي؟ وما هي الحاجة إلى مواقع إخبارية ؟ فأي متابع يمكنه أن يجلس عشر دقائق فقط على وسائل التواصل الاجتماع ليشاهد كل تلك المتابعات من عملاء السوشيال ميديا. صحيح أن بعضها صحيح وبعضها خطأ، بعضها موجه وبعضها ممول، بعضها مبالغ فيه وبعضها محدود الفهم والرؤية، لكن في النهاية كمواطن عادي يتابع الحدث؛ فقد اطلع على كل شيء. لكنه سيبقى في النهاية مذبذبًا مشوشًا يسأل أين الحقيقة، إيه الصح وإيه الخطأ. هنا إن لم تقدم أنت كصحفي أو كموقع أخباري ما يجعل الصورة واضحة وكاملة للقارئ، واكتفيت فقط بما ينقل على السوشيال ميديا، وقتها ستكون الإجابة "نعم انتهى دور الصحفي".

وللعلم فالمسئولية مضاعفة على الصحفي في الوقت الحالي، ففي الماضي كنت تخاطب قارئًا أو متابعًا يسلم لك رأسه وعينيه، أما الآن فأنت تواجه قارئًا مشوشًا لف ودار على عشرات بل مئات الأخبار في صفحات السوشيال ميديا، وهذا أصعب بكثير.

أخيرًا، نقل الأخبار من صفحات السوشيال ميديا ليس عيبًا صحفيًّا ولكنه واقع ولا يحمل أية أخطاء مهنية، لكنه يخالف القاعدة التي تعلمناها من أساتذتنا في المهنة وهي أن "الصحفي هو نابغة جيله، هو وكيل كل قارئ، وعقل كل صغير ولسان كل عجوز، هو نائب الشعب في برلمان الفكر والمعرفة، هو الذي يأتي بالخبر ولا يقبل أن يُفرض عليه، هو من يصنع القصة ولا يقبل أن يكون مجرد محولجي، هو من يربط ويحلل الأحداث ويستخلص النتائج، وهو من يواجه بالأدلة والبراهين، هو من يختار القصص وهو من يقدمها.

في رأيي الشخصي يتبقى من الصحافة الكثير، لكن علينا أن نبحث عنه، ولا ننجرف وسط سيول "الليفات" والتريندات، نعم هي مصدر دخل كبير ولكن علينا أن نعرف كيف نستفيد منها صحفيًّا، كيف نجعلها وسيلة نشر صحفي وليس وسيلة بابها مفتوح على مصراعيه لكل من يمر أمامها.

نعم ستبقى الصحافة إلى يوم الدين، ستبقى بتفرد صحفي مازال يحلم بمهنيته، ستبقى بعين صحفي يرى القصة من وجهة نظر مختلفة، ستبقى بقلم كاتب قادر على لمس الأحلام والطموح، ستبقى بفكر صحفي يستطيع أن يذهب بعيدًا يفتش ويقلب في دفاتر الأزمان، ستبقى في رأس صحفي منتبه لما وراء الخبر، ستبقى في رأس رئيس تحرير يعرف كيف يدير ويخطط، ستبقى في قلم محرر ديسك يضبط ويتنغم بجمال وحلاوة الألفاظ، ستبقى في عين مصور "يطلع صورة حلوة"، ومخرج ومصمم ترتاح معه الأعين.

تابع مواقعنا