الجمعة 22 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

فلسفة الإشارات

الجمعة 02/يوليو/2021 - 01:51 م

•  الواحد مش محتاج يعرف المستقبل ولا يقابل حد يقراله الكف أو فنجان قهوته عشان يشوف نهاية العالم بعينه.. خلال الحياة فيه لحظات بتيجي علينا أكتر من مرة الواحد بيبقى شايفها نهاية العالم؛ هى نفس اللحظة اللي بتشع كآبة وبتحس الدنيا كلها قافلة زى قفلة الدومينو.. بس فعلًا بتكون النهاية؟.. فيه جملة قالتها المذيعة الأمريكية الأشهر "أوبرا وينفري" في برنامجها  (The Opera Show) وختمت بيها واحدة من أهم فقرات الحلقة التاسعة في الموسم العاشر: (هوّن عليك فأنت أقل كآبة وأكثر حظًا من "توم").. مين "توم"؟.. "أوبرا" كانت بتقدم فقرة ثابتة بتستضيف فيها واحد من المشاهدين اللي بيطلع يتكلم عن تجربة مهمة أثرت في حياته قدام الناس.. المواطن الأمريكي "توم كادين" قال إن ظروفه كانت صعبة بسبب إنه اتطرد من المصنع اللي بيشتغل فيه لأنهم غيروا نشاطه.. تراكمت الديون عليه بسب عدم شغله وأضطر يبيع بيته وعربيته وبقى في الشارع.. لكن ولإن الأخوات لبعضيها؛ أخوه استضافه في بيته هو وأسرته.. قعد هو وأسرته (زوجة وطفلين 3 سنين وسنتين) في الأوضة الضيقة اللي في الدور العلوي في بيت أخوه.. أوضة فاضية مفيهاش حاجة غير مرتبة واحدة بس تساع نفرين وهما أساسًا 4 هو ومراته والعيال.. يا سيدي أهو أحسن من مفيش إنت هتنقي!..

 "توم" بيقول: (أذكر تلك الليلة جيدًا، كانت ليلة 12 يوليو وكانت الساعة الثانية صباحًا وكانت درجة الحرارة 40 درجة مئوية وكان العرق يتصبب من جبينى بغزارة ليس فقط بسبب أن حرارة الغرفة مرتفعة ولا لأنها دون تكييف لكنني كنت مكتئبًا).. كان لسه واخد رفض من الوظيفة الجديدة اللي راح يقدم عليها ودي كانت المرة الثالثة اللي يقدم فيها على وظيفة ويوصل للتصفية النهائية للإختيار بينه وبين واحد تاني ويخسرها!.. حاجة مفيش أنحس من كده.. كان بيخبط راسه في المخدة اللي نايم عليها وبيعض طرفها بسنانه!.. الحقيقة إن "توم" كان شخصية طيبة.. كسوفه خلّاه مش قادر يوري وشه لأخوه ويبلغه إنه مضطر يفضل عنده شوية كمان وكان حاسس إنه تقل عليه بزيادة.. بيقول "توم": (كرجل لن يمكنك التفكير فيما هو أسوأ من الشعور كأنك لا قيمة لك وأنك حتى لا تستطيع الإعتناء بنفسك أو أسرتك).. جاب مخدة تانية ودفن راسه تحتها وضغط بإيده فوقها كأنه بيستخبى أكتر وأكتر من الناس والدنيا.. حس إن شوية الضلمة اللي تحت المخدة دول هما العالم الحقيقى بتاعه.. رغم إن الدنيا حر بس جاب بطانية تقيلة وحط جسمه جواها.. مش عايز يشوف حد ولا حد يشوفه.. لكن ولإن النوم سلطان غلبه ونام.. تاني يوم وبسبب تسلل بعض ضوء الشمس بين المخدتين صحي.. سمع صوت عصفور واقف على الشباك ففهم إن الصبح طلع.. إتقلب على السرير وهو تحت الغطاء لأن ماكنش عنده القدرة حتى إنه يشيله من فوقه وإدى ضهره للشباك.. سمع صوت ولاده الإتنين وهما بيضحكوا عند طرف المرتبة.. حس بيهم واقفين فوقها وبيتنططوا.. هما الإتنين مسكوا مخدتين وضربوه بيهم بقوة.. ضرب عيالي متتالي.. ضرب ضرب ضرب.. كان واضح إنهم مش هيبطلوا ضرب فيه إلا لما يقوم هو كمان ويمسك مخدة ويضربهم ويجاريهم في اللعب.. بس "توم" حرفيًا ماكنش قادر ولا عنده طاقة.. عمل نفسه نايم وقال بينه وبين نفسه إحنا في إيه ولا إيه بس دا أنتم بالكم رايق.. الولد الكبير ضربه ضربة قوية تحت ضهره وهو بينده: (أبى أبى إستيقظ).. حبك الدور أكتر وكتم أنفاسه عشان يقنعهم إنه نايم.. بعد شوية لحظات من المحاولة الجدية منه عشان يخفى شعوره بالخجل والخذلان بدأ الطفلين يسحبوا الأغطية من فوقه وكانوا مصممين إنهم ما يبطلوش إلا لما يشوفوا وشه.. هما يشدوا بقوة لتحت، وهو يشد بقوة لفوق في محاولة يائسة للمحافظة على عزلته وشرنقته المقفولة حواليه.. الطفلين صوت ضحكاتهم بقى أعلى وهما فاكرين إن أبوهم بيلعب معاهم لعبة شبه شد الحبل.. أثناء ما الولد الكبير مستمر في الشد؛ الولد الصغير يلف حوالين المرتبة ويحاول يسرسب إيده من تحت الجانب الأيمن للبطانية عشان يمسك أبوه ويعملوا عليه كماشة؛ فأبوه يسد الفتحة بدراعه الشمال عشان يمنعه يوصل له.. اللعبة عجبتهم والحقيقة إنها عجبت "توم" كمان.. مع فشل محاولاتهم ومقاومة "توم"  بيزيد ضحكهم أكتر وضحكه هو كمان من تحت.. سأل نفسه: (ألا يعرفان أن أباهما فاشلًا؟).. فضلوا يسحبوا الغطاء من فوقه.. المزيد من الشد.. المزيد من الضحك.. في النهاية إستسلم ليهم وهما فازوا ورفعوا الغطا عن وشه وقام يلعب معاهم ويشيل ده ويرميه على المرتبة ويشيل التانى ويرفعه على كتفه ويلف بيه عشان يدوخه.. بيقول "توم": (لقد فاز أطفالي ليس فقط في لعبة شد الحبل لكنهما فازا لأنهما ذكراني بأنهما لا يهتمان بما إذا كانت لدى وظيفة أم لا، ولا يهتمان بكم المال الذي أربحه ولا بالمكان الذي ننام فيه، لقد علما فقط أنه يوجد مرح في تلك اللحظة، علمت أن الله أرسلهم لي كما يفعل دائمًا في اللحظات الصعبة للتخفيف عني).. الموقف مر، وساب وراه أثر حلو، والأثر الحلو كان بنزين لـ "توم" عشان يبتدي يدور على شغل في اليوم اللي بعده، ثم اللي بعده، ثم اللي بعده لحد ما لقى وظيفة مناسبة وظروفه اتحسنت تدريجيًا.. عدت السنين بس فضلت القناعة جواه إنها مهما زنقّت من كل ناحية لكن في النهاية بتتبعت لمحات نور رباني بتخلينا نكمل.

•  من 7 سنين جنب قسم المنتزه أول في إسكندرية وتحديدًا في نص شارع الجلاء كان فيه كشك بسيط بتاع ست عظيمة اسمها "أُم إيمان".. أيام تعب والدي الله يرحمه وعشان المستشفى اللي هو كان محجوز فيها كانت في وش الكشك بتاعها كنت بنزل بجيب العصير والميه من عندها يوميًا.. عرفت إنها أرملة لـ زوج مات من 15 سنة وسابها هى وبنتين.. ولاد الحلال جابولها تصريح من المحافظة عشان تعمل الكشك ده تتقوت منه هى وعيالها.. على مدار أسبوع كامل ومرة في مرة ومن خلال الـ 5 دقايق دردشة بتوع كل يوم دول بقي فيه بينا المساحة بتاعت السؤال عن الصحة والأحوال.. أقول: (والنبي ماتنسيش تدعي لأبويا يا "أم إيمان").. ترد: (ربنا ما يحكم فيك حد ويصبحك ويمسيك حُر).. في مرة لما رحت لها كانت بتتخانق مع أمين شرطة لابس مدني.. زعيق وشتايم هنا وهناك.. هو يشتمها وهى ترد والعكس.. شتيمته ليها كانت بلطجة، وشتيمتها له رغم قباحتها كنت شايفها دفاع عن حياة.. سألته فعرفت إن الأمين كان متعود يشكك منها وإنها مارضتش تديله المرة دي قبل ما يسدد القديم وقالت له: (الراجل مايكلش بلاش).. هددها.. (وشرف أمى هطربقهالك وهجيبلك عاليها واطيها).. بعد الخناقة قولت لها برتابة وبشكل روتينى بحت: (ما تاكلي عيش يا "أم إيمان"، وهاوديه وخلاص!، يعني الحاجة اللي هو عايزها هتبقى بـ كام!، يغور بيها إرميها في وشه!).. ردت: (وآخرتها!، ده رزق بناتي ويحاسبني ربنا لو فرطت فيه، لأ كفاية لحد كده).. قولت: (طب إبقي خلي بالك منه بقى).. هزت كتفها بعدم إهتمام وقالت: (هيعمل إيه يعنى؟، محدش هيعمل أكتر من اللي كاتبه ربنا).. شاورت لـ فوق وكملت: (سيبها على الله، ياك إنت فاكر إنه بينضحك عليه!، والمصحف ما بينضحك عليه).. قلت لها ربنا معاكي وخدت حاجتي ومشيت.. سألتني السؤال المعتاد بتاعها: (العركة خدتنا وماقولتليش أبوك عامل إيه النهاردة أُمُال؟).. قولت لها إدعيله.. عدت الأيام.. اتوفى والدي الله يرحمه.. اللي جرب الشعور القاسي ده هيكون فاهم إنها اللحظة اللي بتنفصل فيها عن العالم وبتبقى شايف كل حاجة قدامك بس مش قادر تتحرك، ولا فاهم إيه اللي المفروض يتعمل!.. شلل في تفكيرك، وحركتك.. في نفس يوم وفاته وفي دربكة إستخراج شهادة الوفاة والغُسل والتكفين والجرى رايح جاي ومن وسط الدموع والبُكا شفت مجموعة عساكر بيشيلوا الُكشك بتاع "أُم إيمان" وكانت قاعدة على الرصيف ضامة واحدة من بناتها لحضنها بتتفرج وهما بيشيلوا الكُشك!.. كان واضح إن الأمين نفذ تهديده بأسرع مما يمكن، وبصراحة لا كان فيا دماغ ولا روح ولا الموقف أساسًا كان مستحمل إني أفكر إيه اللي حصل لها.. مرت الأيام واتقطعت علاقتي بالمكان والشارع ده كله لإنه ارتبط معايا بذكرى وفاة والدي.. نسيت "أُم إيمان".. بعد كذا شهر من القصة دي كنت راكب ميكروباص وعدى بيا في منطقة فيكتوريا أول شارع ملك حفني.. شفت سوبر ماركت في شارع جانبي بس شيك وعليه يافطة كبيرة (مينى ماركت "أُم إيمان") وشفتها من ضهرها واقفة فيه.. الله!.. انبسطت ليها جدًا بس سيطر عليا سؤال ده حصل إزاى وإمتى!.. اللحظة اللي كانت قاعدة فيها على الرصيف كان المنطق بيقول إن الست دي ورغم طيبتها وإيمانها لكن مش هتقوم لها قومة تاني!.. بس قامت، ووقفت، وعملت خطوة جديدة أوسع وأجمل ومفيش مقارنة بينها وبين اللي فات.. إحساسي بالخجل منها بسبب تقصيري في متابعة أخبارها رغم إن ظروفي وقتها كانت تعتبر عذر مناسب جدًا؛ لكن منعني أروح واسألها عن التطور اللي حصل ده.. بس لحظة!.. هو أنا فعليًا ماكنتش محتاج أستفسر ما هي نفسها قالتها بلسانها ولسه صوتها بيرن في وداني.. "محدش هيعمل أكتر من اللي كاتبه ربنا".. دي كانت قناعتها اللي أكيد شافت ترجمتها على أرض الواقع بـ عوض وفرج رباني جالها من حيث لا تحتسب فجبرها ويسّر أمورها بعد ما كانت بالبلدي كده "محطوط عليها"!.. يمكن كمان فلسفة "أم إيمان" البسيطة والعميقة في نفس الوقت هى اللي خلّتني بعد كده أغير استقبالي لأى موقف أو خبر صعب بمر بيه، وبقت نظرتي أوسع من مجرد فكرة العُقدة الفلانية اللي أهى حصلت واللي كان كان تمام فين بقى العوض أو التهوين وهييجي بأنهي صورة وشكل!.

•  كلنا أسباب في حياة بعض وكل واحد فينا ربنا بيبعت له اللي يخفف عنه في لحظة ما بتبان نهاية العالم واللي في الحقيقة إحنا كمان ممكن نكون بنخفف عنه اللي منعرفوش في نفس الوقت.. ‏بمليون إشارة رباني جايين من مليون سكة، وبملايين المواقف والحاجات الغير منطقية اللي حصلت وبتحصل، والروح اللي بتندب من تاني في الروح بعد ما الواحد بيفتكرها النهاية؛ هتكتشف إن الواحد ربنا بيحبه جدًا والله.. الحمد لله.

تابع مواقعنا