محرقة ابن رشد الجديدة (1)
حدث هذا في عام 2015.
باسم مكافحة الإرهاب وتحقيق الأمن الفكري، وبعد إطلاق الدعوة إلى الثورة الدينية وتعالي الأصوات الداعية إلى التنوير؛ شكّلت إدارة الهرم التعليمية بمحافظة الجيزة لجنة من أربعة موظفين، لفحص محتويات مكتبة إحدى المدارس الخاصة (مدرسة فضل الحديثة). وبعدما قامت اللجنة بمهمتها وجدت أن بمكتبة المدرسة "بعض الكتب غير المطابقة للمواصفات، وليست مسجلة ضمن القائمة الوزارية؛ لذا أمر المدير التنفيذي باستبعادها وحذفها ووضعها في صندوق وتشميعها". هكذا ذكر محضر الاستبعاد الصادر عن الإدارة التعليمية.
ولإنجاز المهمة على نحو أفضل، وإعمالًا لشعار "الاستئصال والإبادة هما الحل"، فإن المسؤولين عن الإدارة التعليمية فضلوا إحراق الكتب في فناء المدرسة المذكورة، أمام تلميذاتها. ومن ثم جاؤوا بها إلى الفناء، واصطف بالقرب منها بعض المسؤولين، بمديرية التعليم، ظهر منهم في الصور المتداولة أربعة من الأساتذة وثلاث محجبات، وتأكيدًا لمشاعرهم الوطنية فإنهم لم يفتهم أن يحملوا أربعة أعلام مصرية بأيديهم، في حين ظهر في الخلفية نموذج كبير للعلم المصري. كما حرصوا على دعوة بعض العاملين في مجال الإعلام، وممثلي الفضائيات لتسجيل المشهد. وعلى مرأى من الجميع سكب الجاز على كومة الكتب، وأشعلت فيها النيران. وفي التعليق على ما جرى قالت د.بثينة كشك، وكيلة مديرية التربية والتعليم بالجيزة -التي رشحت وزيرة للتعليم يومـًا ما- إن الكتب تروج لفكر جماعة الإخوان وتحرض على العنف، كما أن تداولها ممنوع؛ لأن مؤلفيها إرهابيون يقيمون في قطر.
ما تم إحراقه ٧٥ كتابـًا، من بين عناوينها ما يلي: "الإسلام وأصول الحُكم" لعلي عبدالرازق ــ "منهج الإصلاح الإسلامي" للشيخ عبدالحليم محمود ــ جمال الدين الأفغاني للدكتور عثمان أمين ــ دستور أمة الإسلام" للدكتور حسين مؤنس ــ "مكانة القدس في الإسلام" للشيخ عبدالحميد السايح ــ "مكانة المرأة في الإسلام" لمحمد عطية الإبراشي ــ "أصول الحكم في الإسلام" لمحمد فريد وجدي ــ "من التبعية للأصالة" لأنور الجندي ــ "وسطية الإسلام" للشيخ محمد محمد المدني. وهؤلاء جميعـًا من الأعلام والرموز الذين أثروا في العقل المصري العربي، وجميعهم لا علاقة لهم بالإخوان. ثم إنهم من الذين رحلوا عنا وانتقلوا إلى الدار الآخرة، ولم يذهبوا إلى قطر.
هناك كتبٌ أخرى شملها الحظر والحرق، بعضها صادر عن المجلس القومي للمخدرات، وأحدها عن بونابرت في مصر لمؤلفه كريستوفر هيرولد، وكتابان أحدهما عن البوسنة والهرسك، والثاني عن المسلمين في آسيا الصغرى. وثلاثة كتب لصحفيين، هم: عبدالعال الحمامصي "أقلام في موكب النور"، رجب البنا "البحث عن المستقبل" ــ سمير رجب "للسياسة رجال"ــ هذا إلى جانب كتب أخرى بعضها عن الغزو الثقافي ودور المرأة وعالم الجن والشياطين، وافتراءات أعداء الإسلام والمشاهير، الذين أسلموا والأخلاق الإسلامية.. إلخ.
الخبر نشرته مع صورة حرق الكتب صحيفة "المصري اليوم"، في 14 إبريل 2015، تحت العنوان التالي: "وزارة التعليم تحرق كتبـًا في مدارس الإخوان". وتحته أوردت تصريح وكيلة مديرية التربية والتعليم بثينة كشك، التي بررت به الإجراء وأضافت إلى ما سبقت الإشارة إليه قولها إن الكتب ممنوع تداولها في مصر (وهذا غير صحيح)، وإنه تم الحصول على الموافقة الأمنية على إحراقها. وذكرت أنه كان يمكن الاكتفاء بالتحفظ عليها وتشميعها بالشمع الأحمر، لكن قرار الحرق اتخذ "لحماية الأطفال من غسيل المخ"، الذي كان يحدث في هذه المدارس (الإخوانية).
إلا أن جريدة "التحرير" كان موقفها أفضل بكثير؛ إذ ذكرت في العناوين أن: محرقة كتب ابن رشد تتكرر في مدرسة بالجيزة ــ إشعال النار في مؤلفات شيخ الأزهر الأسبق وعلي عبدالرازق والسنهوري بدعوى حضها على العنف. وفي السطر الأول من الخبر وصفت الحدث بأنه "جريمة بشعة".
بغض النظر عن حقيقة هوية وانتماء أصحاب المدرسة أو ماذا خالفوا، فإن حرق الكتب في فناء المدرسة هو حادث خطير، ويكشف حجم التخلف والجهل، الذي يعشعش في نفوس بعض المسؤولين. هؤلاء يعتقدون أنهم يدافعون عن الحكومة والرئيس والنظام حينما حرقوا الكتب، وتلك هي الكارثة بعينها.
بدا من الصعب تبرئة ساحة وزير التربية والتعليم -حينذاك- من المسؤولية، وهو من سبق أن وافق بتحريض بعض الأكاديميين، والعاملين في مجال الإعلام، على إدراج عقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي في القوائم السوداء، وأقر حذف أجزاء من سيرتهما من مناهج التعليم،؛ لأن الأول ارتكب جريمة فتح إفريقيا، والثاني كانت جريمته أنه طرد الصليبيين من ديار الإسلام. كما كانت جريمة مؤلفي الكتب التي أحرقت أنهم حاولوا شرح الإسلام ودافعوا عنه. وهو ما يعني أن الاستقطاب والصراع دخل مرحلة العبث والجنون .
المفارقة أن كشك نالت دعمـًا من عشرات المعلمين والموظفين من ١٥ إدارة تعليمية بالجيزة تظاهروا أمام مقر وزارة التربية والتعليم، احتجاجـًا على قرار الوزير بإحالة بثينة كشك للتحقيق، وتضامنـًا معها، وتأييدًا لها، بعد عاصفة الهجوم التي تعرضت لها بعد الواقعة. قال المتظاهرون الذين رفعوا لافتات لتأييد وكيل الوزارة إن كشك حاولت محاربة فكر الإخوان المتطرف، وكانت الوزارة تؤيدها، لكن بعد تصعيد الموقف واعتراض البعض تراجع الوزير عن موقفه، مؤكدين أنها تستحق وسام تقدير. وقال محمد عبدالله، الأمين العام لنقابة المعلمين، منظم التظاهرة، إن الإخوان كانوا وراء تصعيد الموقف ضد كشك، وإن تأييدها واجب على جميع المعلمين المعنيين بمواجهة الإرهاب.