الجمعة 01 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

د. أحمد جمال عيد يكتب: اســــتدعاء ولي أمــــــر

د. أحمد جمال عيد
ثقافة
د. أحمد جمال عيد
الأربعاء 07/يوليو/2021 - 07:00 ص

كطالب في المرحلة الثانوية في احدى المدارس الحكومية، نجحت بأن أكون أمينًا لاتحاد الطلاب والمسؤول عن جماعة التربية الفنية بالمدرسة التي كنت أدرس بها، وذلك بحكم موهبتي التي ظهرت مُبكرًا في مجال الرسم، وخاصة رسم الكاريكاتير! الأمر الذي جعلني معروفًا إلى حد بعيد بين أساتذة المدرسة، منهم الداعم ومنهم أيضًا المُناهض لفِكرة الفن جُملة وتفصيلاً لأسباب متفاوتة، فمنهم من يرى أنه مضيعة للوقت وإستهزاء بالعلم، ومنهم من يرى أنه من المُوبقات !!
ويبدو أن هذا التباين الواضح جعل مني مادة خصبة للنقاش وطرح الآراء المتعددة حولي كـ " حــالة " أو " ظـــاهرة " تبدو لبعض الأساتذة جديدة أو ربما غريبة في ذلك الوقت! 
    فكيف لطالب في الصف الثاني الثانوي أن يَشرُد في خياله أثناء إلقاء الدروس، وبدلاً من أن يتلقى الدرس فاتحًا كتاب المنهج المُقرر، يفتح كراسة الرسم ليخطط بها شخصية المدرس أثناء الشرح! وبدلاً من رسم ملامح المُدرس بشكل واقعي نجد الخطوط أقرب للمُبالغة وتُشبه إلى حد بعيد تِلك الرسوم الكاريكاتيرية التي نُشاهدها على صفحات الجرائد والمجلات!
    كان من بين هؤلاء من يرصد تلك الرسومات بعين الأستاذ المُرشد والمُعلم الناضج ليأخذ بيدي ويفتح لي أبواب مرسم المدرسة ويجعل من المرسم ملاذًا آمنًا لي وسط كل الإنتقادات التي أواجهها من البعض بأنني أُمارس عملاً سيشهد عليّ يوم الحساب وحتمًا سيأمرني الله عز وجل بأن أنفخ في هذه الرسومات حتى أُحييها مرة أخرى، بما أنني أرسم صورًا أحاكي بها خلق الله حسبما قيل لي ! 
    كلمات كثيرة تبدو أكبر من تفكيري في تِلك المرحلة، جعلتني مُتخبطًا ما بين ثقتي في أن الله عز وجل لم ولن يخلق موهبتي إلا لحِكمة يعلمها دون غيره، وأيضًا كلمات الأستاذ "زيدان أبو حَمد" الذي فرّغ نفسه لي، حيث يأتي لي أثناء طابور الصباح ليقول جملته الشهيرة : يا أهلاً بالفنــــان .. متى سُتقلع عن تلك الرسومات التافهة؟ ستؤمر بإحياء ما صنعت يوم القيامة، وحتمًا ستفشل.
    على أية حال .. استمر الأستاذ " نفادي " مُدرس التربية الفنية في دعمي، للدرجة التي جعلته يبحث عن أي مُسابقة أو فاعلية لأُشارك بها باسم المدرسة وطبعًا كنت أحقق بعض المراكز المُتقدمة تحت اشرافه.
 

    رحنا نتجاذب أطراف الحديث أنا والأستاذ " كفراوي " ، والتوتر يملأ كل كياني، فما كنت أرغب في تِلك المُناقشة، ولكنه كان مُصرًا بأن يسحب مني أطراف الحديث حول نشاطي الزائد في المدرسة وعدم تفرغي للدراسة.
    الأستاذ " كفراوي " مدرس للتاريخ والتربية القومية يبلغ من العمر أربعة وخمسون عامًا، يمتلك كاريزما عجيبة وشخصية قوية جدًا وثقافة واسعة ربما اكتسبها من زياراته المُتعددة لأغلب دول العالم، كان حديثه عن تلك الزيارات ومغامراته في هذه البلدان حديثًا شيقًا للغاية .
 

    ذهبت إلى المنزل بعد يوم دراسي طويل جداً، لأجد أمي – رحمة الله عليها – تُحضِر لي وجبة الغداء، تناولت الغداء وفتحت التِلفاز على القناة الأولى المصرية لأشاهد حلقات الكارتون المفضلة ليّ في ذلك الوقت، وهي حلقات الرسوم المتحركة " كابتن ماجد " ، وفي تِلك الأثناء تم إذاعة إعلان عن منتج جديد لشاي اسمه " بروك بوند " كان الإعلان عبارة عن شخصية كارتونية ملامحها مُميزة جداً ومُبتكرة، تَعلق وجداني بالشخصية الكارتونية، ونظرت إليها بعين الرسام حتى حُفِرت ملامحها في ذاكرتي، وكعادة أي موهوب صغير في بداية حياته الفنية أصبحت أُعيد رسم ما أتأثر به وأُقلده في كل مكان وزمان، حتى امتلأت كراساتي بإعادة رسم شخصية شاي " بروك بوند " الرجل الخمسيني، الذي يلبس نظارة كبيرة " قعر كوباية "، له شنب كظ كبير يُغطي شفتيه، وشعر مُتناثر من الجانبين ورأس فارغة تماماً من أي شعر فى المنتصف، كِرش كبير، وسُترة موديل قديم جداً وحذاء رفيع، تفاصيل كثيرة مُدهشة ومبتكرة، وملفتة لأي شخص يمتلك موهبة رسم الكاريكاتير.
    ذات صباح، ذهبت إلى مدرستي وكالعادة أقضي وقت الفُسحة المُقرر في مرسم المدرسة أمارس موهبتي التي أعشقها، وكعادة الأستاذ " نفادي " مدرس التربية الفنية أن يُلاحظ تطور خطوطي ويقوم بتوجيهي وإرشادي، حتى شاهد اسكتشات تخطيطية لشخصية " بروك بوند " في كراستي. انبهر بها جدًا وجاءت في خياله فِكرة إعادة رسمها مرة أخرى بشكل كبير جدًا في مدخل المدرسة وهي – أي الشخصية – تلوح بيديها لترحب بالزائرين، ونكتب بجوارها : أهلاً وسهلاً بالسادة الزائرين.
 

    فرحت جدًا بهذا التكليف، وسعدت بخوض تجربة جديدة تجعلني أعيش تجربة الرسم على مساحات كبيرة أول مرة لأكسر حاجز الخوف من الفضاء الواسع، وأيضاً استخدام خامات جديدة واكتساب خبرة وشهرة بين أقراني في المدرسة بأن أكون صاحب هذا الرسم العِملاق.
    أخذت أرسم شخصية " بروك بوند " لمدة يوم دراسي كامل بعد أن استأذن لي الأستاذ " نفادي " من مدير المدرسة بأن أتغيب عن الحِصص المُقررة، وبعد الإنتهاء من الرسم فوجئنا جميعًا طُلاب وأساتذة بأن هذا الرسم ليس فقط لشخصية " بروك بوند " التميمة الخاصة بمنتج الشاي الشهير !! وإنما أيضًا تُشبة إلى حد بعيد جدًا الأستاذ " كفراوي " مُدرس التاريخ والتربية القومية بكامل هيئته وملابسه ذات الطِراز القديم، ونظارته وشاربه الكظ !! يا لها من ورطة !! ماذا أنا بفاعل بعد أن رسمت الشخصية بمساحة ثلاثة أمتار وربما أكثر على جدار المدرسة !!
 

    ذهبت إلى منزلي وأنا متخوف من ردود الأفعال حول رسم الشخصية الكارتونية، ولا أدري ماذا أفعل في حال كانت ردود الأفعال سلبية .. على أية حال قضيت الليل في تفكير وتوتر حتى جاء الصباح لأذهب إلى المدرسة مُحاولاً تجاهل الموضوع، حتى فوجئت بأنني ممنوع من دخول المدرسة، ليس ذلك فقط .. أيضاً وجدت خطاباً مُوقع من مدير المدرسة "باستدعاء ولي الأمر". والتُهمة هي السخرية من أستاذ أكاديمي ورسمه بشكل هزلي على جدران المدرسة !! وبعد أن أخبرت أسرتي وجاءت والدتي – رحمة الله عليها – انقضى الأمر على أن يتم فصلي لمدة أسبوع كامل كنوع من العقاب على هذا الفعل الساخر، وطبعاً هذا القرار جاء بعد محاولات عديدة من جميع أسرتي بأن هذا الرسم لا يُمثل شخصية الأستاذ " كفراوي " الأمر الذي جعلني أذهب لمحل البقالة أشتري علبة شاي عليها شخصية " بروك بوند" لكي أثبت لإدارة المدرسة حُسن النوايا .. لكن دون أدنى فائدة !! 


    ظلت والدتي تناقش الأستاذ " كفراوي " كيف لك أن زرت أغلب العواصم العالمية، ولا تعترف بالفن ! كيف لك أن تُدرّس التاريخ للأجيال وأنت لا تُشجعهم على تنمية مواهبهم ! ولكن " كفراوي " أصر على أنني سخرت منه مستقويًا بالأستاذ " نفادي "، وأن هذا الرسم كان للنيل من هيبته الموقرة!
    مرت السنوات وظلت هذه القصة عالقة في ذهني أستدعيها وأبتسم .. وأحكيها لأصدقائي عندما نتذكر أيام الصبا.

تابع مواقعنا