محمد عبد الظاهر المطارقي يكتب: حكايات من الواقع والحياة عن فريد معوض
ثمة حدس يتغلغل في أغوار النفس السحيقة..قد يطفو فجأة الي السطح ليعلن عن حدوثه بيقين..ثم يتواري في خبايا النفس ويختفي...هكذا توالد لدي احساس ناطق ان هذه هي المرة الأخيرة التي أراه فيها..تأملته بعمق وقد احتوتني حالة من حالات الأسي والحزن...شعور جارف يؤكد لي أنه قد رحل بالفعل وأن الذي يرقد أمامي الآن هي مجرد صورة شاحبة استدعاها عقلي الباطن...لقد انتهي..انطوت صفحته الي الأبد...لم يعد بوسعي أن أراه..أو أسمع صوته الشجي المعجون بالدفء الانساني الخالص..أكد لدي هذا الشعور حضور الأديب جار النبي الحلو...توزعت نظراتي بينهما..واسترجعت المشهد الأول الذي جمع بيننا....كان ذلك منذ سنوات وسنوات.. وكأن جار النبي أبي الا أن يكون مشاركا في المشهدين معا..مشهد البداية..ومشهد النهاية.
وقتها كنت طالبا بالفرقة الثانية بالمرحلة الثانوية...وكان الأستاذ جار النبي الحلو سكرتيرا بالمدرسة...وكنت سعيدا بذلك..وكثيرا ما كنت اتفلت من بين الحصص وأذهب اليه في مكتبه لنتبادل أطراف الحديث..والتي تدور حول الأدب وفن القصة القصيرة...وأعرض عليه بعض القصص التي قمت بكتابتها.. وأستمع اليه بشغف وهو يحكي لي عن حياته...ورفقاء جيله كالمنسي قنديل..وفريد أبوسعدة..وسعيد الكفراوي..
وذات يوم مشرق.. وبينما أجلس في الفصل أنصت الي المعلم..اذا بالأستاذ جار علي باب الفصل يسأل عنى..ولما رآني استأذن من مدرس الحصة في أن أخرج معه...وحملت حقيبتي وخرجت مبتسما ..وأنا أتساءل بيني وبين نفسي..ما الموضوع يا تري...خيرا !!
وهبطنا الدرج..وولجنا باب مكتبه..واذا بشاب قد تجاوز العشرون من عمره يجلس..يبدو عليه الخجل..صافحته وجلست..قدمني الاستاذ جار اليه: " محمد المطارقي" الذي تكلمت معك عنه..ثم توجه الاستاذ جار نحوي قائلا: "فريد معوض " بيكتب قصص.
وطلب الاستاذ جار منه أن يقوم بقراءة قصة علي مسامعي كان قد قرأها منذ قليل علي مسامع الأستاذ جار..وكانت بعنوان" عود ثقاب" واستمعت الي القصة..ثم أعلنت له عن رأيي..فابتسم الاستاذ جار قائلا له: "أرأيت.. كما قلت لك.."
ودق ناقوس المدرسة يعلن انتهاء اليوم الدراسي...وخرجنا سويا..وانطلقنا في شوارع المحلة..والتي أفضت بنا الي شارع البحر..مضينا نتحدث بمنتهى الحميمية..كأننا نعرف بعضنا منذ زمن بعيد.. كان شابا نحيل الجسم..خجولا.. يقيم بقرية اسمها سامول التابعة لمركز ومدينة المحلة.. يعشق القراءة..وله محاولات في كتابة القصة القصيرة...وهكذا توطدت بيننا العلاقة الي حد كبير..فذهبت الي قريته وتعرفت علي أسرته الطيبة و صرنا نتواصل سويا من خلال الرسائل المكتوبة( الجوابات) والتي يحملها زميل لي بالفصل يدعي ممتاز كان شقيقا لزوجته ويقيم معهم بالقرية..
وأصبحنا متلازمين..
كان فريد متزوجا وعنده ثلاث أطفال “محمد وأحمد..وطفلة صغيرة تدعي إيمان”..وكنت أنا لا أزال طالبا بالمرحلة الثانوية...ومن خلال علاقتي بفريد تعرفت علي كل الأصدقاء بسامول وصرت واحدا منهم..نلتقي جميعا في بيت فريد .. نأكل من طعامهم الشهي..وننال من دعوات والدته الطيبة.. ويأتي الي بيتي بمنطقة الرجبي أحد أحياء مدينة المحلة..ومضت الأيام ..وتوطدت العلاقة بيني وبين فريد معوض وأقنعته أن يحضر نادي الأدب بقصر ثقافة المحلة فهناك أدباء وشعراء سوف يعجبونه كثيرا...وبالفعل حضر فريد...واستطاع ببساطته وعفويته كشاب ريفي أن يتعرف علي الأدباء ويرتبط بأواصر صداقة...و محبة..
كان الذهاب الي سامول متعة وشغف.. وحالة من حالات الابتهاج.. ثمة بكارة وطزاجة تحتوينا ..ألفت الذهاب الي تلك القرية المتدثرة بأغلفة من القري المحيطة..هاهو الباص يطوي الأرض المتربة المتلوية..علي جانبه الأيمن حقول ممتدة..وأشجار وارفة الظلال تعانق الأفق البعيد..وعلي الجانب الآخر نهر يجري كطفل متوقد الحركة.. ونساء علي حافة النهر منهمكات في غسل الأوعية و الأواني المنزلية.. وصبية عراة يتقافزون و يتضاحكون وهم يحتضنون المياة الدافئة في سعادة وابتهاج....هذا هو عالم فريد...عالم ثري ..شديد التفرد ..هكذا استطاع معوض أن يغوص في أعماقه ويسبر غور شخوصه ويتماهي مع أحلامهم البسيطة معبرا عن أدق تفاصيل حياتهم...
امتدت علاقتي بفريد معوض حتي لحظات الوداع الأخيرة...تعمق بإنسانيته الرهيفة في أعماق نفسي وجمعت بيننا محبة خالصة وأحلام مشتركة..توثقت علاقتي بكل ماله علاقة بفريد..
فريد يمتاز بقدرات عجيبة.. فهو الفلاح البسيط الذي لا يملك أرضا ولا فأسا استطاع أن ينقل الينا عالم القرية بكل تفاصيلها بمهارة وامتياز.. هو الموظف بالشئون الاجتماعية الذي استمد من وظيفته أجواء أخري تسيل انسانية تناولت شخصيات بائسة لتضاف الي عالم القرية.
سر عبقرية فريد هي تلك البساطة المذهلة...العميقة.. والتي ظل محتفظا بها محافظا عليها حتي بعد أن تحقق ابداعيا وحاز جوائز عدة احتلت المركز الأول سواء بمصر أو العالم العربي...لم يخض مسابقة الا وكان علي رأس القائمة..كان السهم الذي انطلق من غمده بقوة فصدرت له مجموعات قصصية..وضرب بحظ وافر في أرض الرواية وتحولت معظم رواياته الي أعمال درامية.. بساطة فريد كانت هي المكون الأساسي لشخصيته السمحة المتواضعة.. فما أن تلتقيه أول مرة حتي ينتهي اللقاء بعناق حار..وأحضان وقبلات...
وحين يتحدث تحتويك نبرات صوته الصادقة فيجذبك بأسلوبه البسيط البارع كالينبوع الرقراق الصافي..في يوم شديد الحرارة..
هكذا اذا تحدث خيم الصمت علي الجميع ..اذ كانت نبرات صوته تعلو وترتفع فتشعر بحالة من الحماس والصدق...والعفوية التي تأخذ بتلابيبك وتدفعك للإنصات اليه مستمتعا بحديثه الشجي.. وقدرته علي التأصيل وعرض وجهة نظره في القضايا والشخصيات.. والموضوعات المطروحة.
اتساق عبقري بين ما يبدو للعيان من مظاهر شخصيته البسيطة جدا وبساطة وعمق مايكتب يربط بينهما حبال متينة من الصدق والحميمية المرهفة.
لم يكن أحدنا قد نشر كلمة واحدة في مجلة أو جريدة...كانت سعادتنا عظيمة جدا وهائلة ونحن نقرأ لأنفسنا آخر ماكتبناه من قصة..حالة من حالات الدهشة الطفولية.. والروعة عندما تفرغ من كتابة قصة جديدة كأنما حصلت علي أرقي الجوائز..ثم ننطلق نحو الحقول المترامية...ونسير بحذاء النهر الجاري ننصت بشغف الي القصة وكل يدلو بدلوه..ويتحدث بعاطفة جياشة وسعادة نادرة عن العمل الجديد..
كنا في منتصف الثمانينيات.. وفي العام1986 كنت علي موعد مع نشر أول قصة لي بمجلة الرافعي..كانت المجلة برغم كونها ماستر..أي يتم طباعتها بنظام ورق الماستر..طباعة بدائية ورديئة بالقياس لما وصلت اليه طرق وأساليب الطباعة الحديثة الآن واستخدام أجهزة الحاسوب كعنصر أساسي...لكن طباعة ونشر مجلة في ذلك الوقت كان يعد حدثا مهما..وقد ظهر في نفس التوقيت وما قبله عددا من مجلات الماستر..كما أنني شاركت وعدد من الأصدقاء في تحرير وطباعة ونشر عددا من مجلات الماستر كمجلة شباب الجيل...النهار..صوت الأقاليم..الزهور..وكل مجلة لها قصة وحكاية وفريق من لأصدقاء...أما مجلة الرافعي تحديدا فقد امتازت بكونها صادرة عن الشباب والرياضة برعاية مشرفها العام الشاعر فاروق خلف ومدير تحريرها الكاتب والانسان أحمد عزت سليم..وسكرتارية التحرير لأستاذي و صديقي الأديب محمد حمزة العزوني...واستطاعت المجلة أن تستكتب عددا من الأقلام المبدعة في اقليم الدلتا..وامتدت لتشمل المزيد من المحافظات الأخري...فكتب بها العديد من المبدعين المتألقين أو الذين تألق نجمهم فيما بعد..وصاروا نجوما ملء السمع البصر.أمثال عبد الله السيد شرف..المنسي قنديل..جار النبي الحلو.. نشأت الشريف..مختارعيسي..محمد العزوني..ربيع عقب الباب..سامي عبد الوهاب بطة.. وغيرهم..وقد تبنت المجلة أهم القضايا الثقافية وأهمها الأدب والابداع بكل صوره وأشكاله...وسوف نفرد مقال خاص عن هذه المجلة التي شكلت عقل ووجدان عدد كبير من الأدباء الشبان الذين ينتمون لجيل الثمانينات ومنهم بالطبع فريد معوض بقصته..الرائعة (( المنديل) وقصتي(الجبر) وكل من القصتين لهما ذكري وتاريخ..
قدمنا جار النبي الحلو في المجلة كما قدم غيرنا من أبناء جيلي..منهم من استمر في طريقه الشاق صابرا محتسبا ومنهم من سقط من قبل أن يخطو للأمام خطوة. وبحث له عن طريق آخر.. هكذا كانت خطواتنا الأولي نحو نشر ابداعاتنا .. ثم شارك فريد في كتاب جماعي تحت عنوان (تبات ونبات ) صدر عن أدب الجماهير والذي تولي نشره الأديب فؤاد حجازي..بينما كنت دائم التردد علي القاهرة لوجود أقارب كبيت خالي...وبيت عمي..وكان ذلك مشجعا لي علي الاقامة في القاهرة أطول مدة ممكنة وذلك لحضور الندوات الأدبية كندوة المساء لأستاذنا محمد جبريل وكانت يوم الأربعاء من كل أسبوع بمبني التحرير بشارع زكريا احمد المتفرع من شارع عماد الدين وهناك التقيت بعدد كبير من الأصدقاء.. ويوم الاثنين بنادي القصة 68 شارع قصر العيني.. ويوم الثلاثاء بأتيليه القاهرة بميدان طلعت حرب بجوار حزب التجمع.. ويوم الخميس ندوة فجر للشاعر الدكتور يسري العزب بكازينو النيل..تم انتقل الى كازينو الشجرة.. تم انتقل مرة أخرى الى نادى الجيزة الرياضى المطل على النيل.وكان يحرص على حضور الندوة بانتظام مجموعة من الأدباء والشعراء أذكر منهم "عبد العال الحمامصى.. محمد مستجاب..إدريس على.. يسرى السيد.. يسرى حسان..ناجى شعيب..مؤمن أحمد..مديحة أبوزيد..أحمد الشيخ صاحب "النبش فى الدماغ"..
كنت أعد نفسي سفيرا لأدباء المحلة أسجل أهم الأخبار الأدبية وأقوم بنشر القصص والمقالات بجريدة المساء- صفحة "شباب الأدب" التي يشرف عليها أديبنا الكبير محمد جبريل..والذي سيكون لنا معه وقفة طويلة في مقال خاص به.
أذكر أن فريد معوض لم يكن قد نزل الي القاهرة في تلك الفترة لكنه كان يبعث بقصصه الي جريدة المساء..ومجلة ابداع..ومجلة أدب ونقد..والثقافة الجديدة...واستطاع بإصراره أن ينشر بعض الأعمال القصصية..فكتبت عنه مقالا بعنوان(القرية عالم فريد) کان یعد أول مقال یتناول شخصية فريد وجوانب من حياته..ولم يكن أحد قد كتب عن فريد من قبل اللهم إلا مقالا للكاتب محمد أبوقمر...فكنت سعيد الحظ بكوني أول من كتب عن فريد..وذلك مسجل في سيرته الذاتية.. اذ كنت أعتبر ان له حق علي ينبغي أن أقوم به نحوه..ليس فقط فريدا..ولكن لكل أبناء جيلي: فراج مطاوع .. محمد الدش ..جابر سركيس ..محمد ناصف ..لطفي مطاوع .. جمال عساكر. إيهاب الورداني. مجدي الفقي ..متولي الشافعي.. وكل من تقاسم معي حلم الأدب والكتابة.
في بيت فريد كان يجتمع الأحبة نحتسي جميعا الشاي.. ونلتف حول مائدة الطعام العامرة نأكل بشهية عجيبة..
كان فريد معوض ببساطته المعهودة وبراعته الأدبية قد استطاع أن يجمع من حوله مجموعة من شباب القرية..كانوا يلتقون به بصورة منتظمة..فأعجبهم كثيرا عالم الكتابة وجو الأدب والأدباء فأصابتهم جميعا عدوي الكتابة...ومن ثم قام فريد بإعداد ورشة أدبية في بيته ..يستمع اليهم ويقوم بتوجيههم.. فكانوا ملازمين له ملازمة الظل لصاحبه.ّ فتجلت مواهبهم الابداعية .. والتزموا صاحبهم في كل خطواته فكان يأتي بهم الي قصر ثقافة المحلة... وكانوا يسيرون خلف فريد والتعرف من خلاله علي أهم طرق النشر...والتقدم للمسابقات.. فظهرت أسماء وتحقق البعض منهم ثم خمدوا جميعا بعد وفاة فريد وكأنهم كانوا يستمدون وجودهم من وجوده..
أذكر أن فريدا وكنا معا في مؤتمر للأدب بالإسكندرية.. ونحن في طريق سيرنا من الفندق الي قاعة الندوات اشتكي لي من جحودهم ونكرانهم له...وعدم قبولهم لما يقال عنهم بأنهم خرجوا جميعا من تحت عباءته أو ان فريدا هو من أخذ بأيديهم وكشف لهم الطريق. حتي أنهم اجتمعوا علي مقاطعته ..وكان فريد يشعر بمرارة شديدة وحزن بالغ ..فقلت أطيب خاطره وأعلمه الحقيقة...أن الانسان بطبيعته قد يقبل في باكورة حياته أن يكون تابعا أو تلميذا.. لكنه لن يقبل أن يظل ذلك قيدا في عنقه الي الابد ... الوفاء عملة نادرة.. لا ترهق نفسك يا صديقي...هم يريدون أن يشعروا بالتحرر من وطأة فريد عليهم.. يحاولون الاستقلال واثبات الذات.. هو رد فعل طبيعي وهو لاشك قاسيا لأن فيه نوع من المكابرة وانكار الفضل ..ولكن حاول الا تشعرهم بذلك...وأنا أعلم يقينا أن فريد من ذلك النوع الذي لا يحب أن يمارس عليهم دور الأستاذ ويذكرهم دوما بتفضله عليهم...وانما كان يتم الاعلان عن ذلك من خارج سامول ..وكثيرا ما أخبر بذلك أديبنا الكبير يعقوب الشاروني ...كان في أغلب الندوات التي يحضرها فريد. أو يتعرض للحديث عنه يبارك نشاطه ويمتدح دوره الفاعل في ورشة سامول التي أفرزت جيلا من المبدعين..
كان فريد يمتاز بالحماس والنشاط طوال الوقت وكأن ثمة هاجس يدعوه لأن يتحرك بسرعة...ويسعي بكل ما يملك للوصول الي أقصي حد ممكن من الانتاج الابداعي ..لأن أجله قد أوشك على الانتهاء. وسيموت كما مات والده مبكرا...
ولأن موهبة الرب سبحانه قد أصابته فقد امتلك عبقرية تحويل التراب الي سلاسل من الذهب الخالص تجلت في شكل قصص وروايات ومسرحيات وكتابات للأطفال ودراسات نقدية.. ومقالات أدبية ومسلسلات تلفزيونية... وعلاقات انسانية .