السبت 23 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

حجٌ بلا سَفر

الأربعاء 07/يوليو/2021 - 08:57 م

للعام الثاني على التوالي تنقطع السبل بمن تعلقت قلوبهم بحج بيت الله؛ رغبة في تلبية نداء خليل الله إبراهيم – عليه السلام- الذي أمره ربُّه أن يبلِّغه للنَّاس: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، والذي جعله ربنا من أركان ديننا: {... وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وبيَّن رسولنا أنه خاتمة الأركان وتمام البناء: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".

 

والناس في حاجة إليه فهو المتمم لمسيرة بناء الإسلام الصحيح في نفوسهم، وبتمامه صحيحًا يرجون سلامة موقفهم بين يدي خالقهم: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"، وهؤلاء وهم بالملايين استطاع هذا المخلوق الذي لا يرى بالعين المجردة الذي يعرف بكورونا أن يوقف زحفهم إلى الرحاب المقدسة التي تهفوا إليها قلوبهم، وتتعلق بزيارتها آمالهم، فالبسطاء من آبائنا وأمهاتنا تلازمهم أمنية الفوز بزيارة النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - وهي دعوتهم المفضلة طول أعمارهم؛ حيث يعبرون بها عن الحج لفرط محبتهم لرسولهم، مع أن قبره الشريف بالمدينة المنورة وفي مسجدها المبارك الذي يحمل صفته، وكلاهما ليس من مناسك العمرة أو الحج، بل يستطيع المعمر والحاج الاقتصار على مكة في حجه وعمرته، فكلُّ المناسك بأركانها وواجباتها منحصرة فيها، وتبقى زيارة قبر الحبيب ومسجده من الفضائل المتممة لصورة العمرة والحج في أبهى صورهما، لا تستريح نفس الحاج ولا المعتمر إلا بها.

 

وتقطع السبل وتوقف رحلات الحج للعام الثاني على التوالي آلم هؤلاء المشتاقين العاشقين لرسولهم والحريصين على إتمام أركان دينهم، هو أمر عارض اضطرت له المملكة العربيَّة السعوديَّة؛ من باب حفظ حياة الناس، وعدم تعريضهم للتهلكة، حيث من المعلوم أن التعامل مع هذا الفيروس الذي طال مقامه بيننا ولا يبدو أنه يعتزم الرحيل قريبًا، يقتضي تخفيف الزحام وتحقيق التباعد بين الناس، ولا يخفى على متابع لأعمال الحج في كلِّ عام أن تحقيق هذا التباعد يستحيل لو سمح بتوافد الحجيج بالملايين من أرجاء الدنيا.

 

ولهؤلاء الذين يشعرون بالأسى لعدم تمكنهم من زيارة الأماكن المقدسة معتمرين وحجاجًا أقول: لا تحزنوا، فمن رحمة الله بنا أنَّه لم يكلفنا بما لا نطيق: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...}؛ حيث انقطعت بكم السبل فلا إثم عليكم إن كنتم ترغبون في حج الفريضة، حيث لا تقصير ولا تفريط، كما أن لكم في رأي الفقهاء الذين يرون فريضة الحج على التراخي وليس على الفور سعة أخرى، فمتى تمكنتم من الأداء قبل منكم بإذن الله؛ ولذا فما عليكم إلا الإبقاء على نيَّاتكم واعتزامكم الحج متى تمكنتم، فإن أدرككم الموت قبل تمكنكم بعثتم ملبين بإذن الله؛ وذلك لقول رسولنا الأكرم- صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".

 

وإلى أولئك الذين أكرمهم الله بحج الفريضة من قبل ويرغبون في التنفل والتطوع وهو أمر حسن، ولكن أحسن منه سواء في ظلِّ الجائحة أو بدونها؛ طرق ميادين الخير التي تعود عليهم بالأجر العظيم الذي يفوق أجر حج النفل، وهي كثيرة جدًّا، لا سيما في ظلِّ الجائحة التي نمر بها والضغوط المالية الكبيرة التي تعجز عن تلبيتها الدخول المتواضعة لما يصعب حصره من الأسر، وانتشار حالات البطالة وزيادة معدلاتها أكثر مما كانت عليه نتيجة الأضرار المباشرة التي أصابت ميادين الرزق المختلفة بعد جائحة كورونا، فإنفاق المال الذي كان يعتزم أن يحج أو يعتمر به الناس في إطعام الفقراء والمساكين وكسوتهم، أفضل من إنفاق المال في حج التطوع، وتجهيز الشباب والفتيات المقبلين على الزواج، ولا يستطيعون إتمامه أفضل من حج النافلة، وتوصيل المرافق وتغطية بيوت الفقراء لإيوائهم ووقايتهم من حر الشمس وبرد الشتاء، وإصلاح الطرق للمارة، وتشييد المدارس والمستشفيات، ودور الأيتام والمسنين، وعلاج المرضى، ودفع تكلفة عملياتهم الجراحيَّة التي يعجزون عنها، وسداد ديون الغارمين والغارمات ولا سيما المسجونين منهم والمسجونات، وتوفير وسائل الوقاية من كمامات ومطهرات لحماية الناس من فيروس كورونا وغيره.. كل ذلك وأمثاله كثير أفضل من حج النافلة وعمرتها.

 

فحج النافلة أو العمرة يعود الثواب فيهما على الفاعل وحده متى كانت نيته خالصة لله، ولا ثواب له إن كان يفعل ذلك رياء وسمعة، أمَّا هذه الأعمال فنفعها يعم الكثيرين، وقد يمنع عنهم أضرارًا شديدة كانت واقعة عليهم أو في طريقها إليهم، ومعلوم أن الأجر على العمل بقدر الأثر المترتب عليه وليس على حجمه المالي أو البدني، فشربة ماء لحيوان وليست لإنسان بشَّر رسولنا أن صاحبها في الجنة؛ حين سقى رجل كلبًا رآه يلهث من شدة العطش، فقد قال رسولنا الأكرم: "دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي كَلْبٍ» قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَرَّ بِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ يَلْهَثُ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ فَرَبَطَ طَرْفَ رِدَائِهِ بِخُفِّهِ فَأَخْرَجَ لَهُ مِنَ الْمَاءِ مَا وَلَغَ فِيهِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الْكَلْبَ وَأَوْجَبَ لَهُ الْجَنَّةَ".

 

وهذا الأجر العظيم الذي هو غاية ما تتطلع له نفس المسلم، ربما لا يظفر به من أنفق ملايين لم تعد على الناس بخير، كحفلات الأعراس وما فيها من مظاهر البذخ، حتى مناسبات العزاء، ففي كثير من الأحيان كأنها مناسبات عرس لما يفعله أصحابها من سرادقات مبالغ فيها، وفي بعض الدول تقدم فيها من الأطعمة والمشروبات ربما ما يفوق حفلات الأعراس، وبكلِّ تأكيد شربة ماء لعطشان، لا سيما إن كانت لإفطاره في رمضان أكبر ثوابًا من هذه الأموال الطائلة التي تكفي لسد حاجة الفقراء والمساكين  في منطقة العرس أو العزاء بأكملها، ومما سبق ذكره، وغيره كثير يتبَّن أنَّ الإنسان يستطيع الحج بمعنى تحصيل ثوابه من دون تحمل مشاق السفر، متى كان يقصد بسفره وحجه أو عمرته فقط الحصول على الثواب وعلى مرضاة الله - عز وجل - ولعلنا سمعنا قصة عبد الله بن المبارك التي ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية بلا إسناد، وذكرها الخطيب البغدادي في ترجمته بسندها، حين كان خارجًا للحج فرأى امرأة تأخذ طائرًا ميّتًا من القمامة، وحين علم أنها تتضور وأولادها جوعًا، وتنوي إطعامهم إيَّاه أعطاها ما معه لحجه، ولم يحتفظ إلا بمقدار ما يعيده لبلده، والقصة إن ثبتت فهي توافق مقاصد شرعنا الحنيف، وتنبئ عن فهم دقيق لأحكامه من قبل هذا الرجل الصالح، فحجوا واعتمروا من دون سفر؛ حتى يفتح الله لكم أبواب الحج والعمرة، بعد أن يرفع ويكشف الغمة.

تابع مواقعنا