محرقة ابن رشد الجديدة (2)
مع اشتداد أزمة حرق الكتب تحت إشراف د.بثينة كشك، وكيلة مديرية التربية والتعليم بالجيزة، حاول د.محب الرافعي، وزير التربية والتعليم، تهدئة الموقف، وسمح بدخول المتظاهرين إلى قاعة الاجتماعات بالوزارة لبحث مطالبهم والاستماع لهم، مؤكدًا أن كشك كانت حسنة النية، ولم تكن تقصد شيئـًا من عملية حرق الكتب.
ما يلفت الانتباه أن إعلان الحرب على التطرف تحول إلى "عرض إعلامي" أقرب إلى الدعائي، لا يعبر عن توجه يمكن الركون إليه في تطوير المكتبات المدرسية ذاتها، والتي نتصور أنها تعاني، مثل بقية عناصر العملية التعليمية، من تعثر وضعف. قد يكون مفهومـًا أن تتخلص المدارس من كتب تحض على العنف -إذا ثبت ذلك بالطبع- وبالطرق القانونية المتعارف عليها وليس الحرق، ولكن ما هي التصورات التي تحملها من أجل تطوير المكتبات بضم المفيد من الكتب الذي يربي الجيل الجديد على الإبداع، والتفكير النقدي، وينمي روح البحث والدأب في طلب المعرفة في نفوسهم؟
ما نفهمه هو أن تتجه وزارة التربية والتعليم، سواء بذاتها أو بالتعاون مع هيئة الكتاب ومكتبة الإسكندرية وغيرهما في تطوير المكتبات المدرسية. وهذا لا يمكن أن يتحقق دون دراسة دقيقة لحال هذه المكتبات من حيث نوعية الكتب الموجودة بها، مدى حداثتها، ارتباطها بالتكوين الفكري والوجداني للطلاب والطالبات، معدلات الاستعارة الخارجية، نسبة المترددين عليها مقارنة بالعدد الإجمالي للطلاب؛ لأننا نزعم أن المسألة تتجاوز حرق مجموعة من الكتب في إحدى المدارس، ولكن في نوعية الكتب التي تحض على الجهل، والخرافة، وتمنع التفكير العقلاني، وهي كثيرة في مكتبات المدارس في حدود علمنا.
حسب زينب وفقي، مدير إدارة المكتبات بوزارة التربية والتعليم، تدخل الكتب إلى مكتبات المدارس بطريقين، والوزارة مسؤولة فقط عن كتب القائمة، وهي الكتب التي تقرها الوزارة عن طريق مستشارى المواد، مؤكدة أنه مع بداية العام الدراسي تتقدم دور النشر المختلفة إلى الوزارة بقائمة بالكتب التي تصدرها، وتقوم إدارة المكتبات بدورها بفرز الكتب وعرضها على مستشارى المواد، كل في تخصصه، وفي حال إجازة المستشارين الكتب يتم وضع قائمة نهائية بالكتب المسموح بوضعها داخل المكتبات، وتصدر في شكل قائمة نهائية، تعرض على المدارس، ومن يرغب في الشراء يتقدم كل حسب ميزانيته. الطريق الآخر هو الإهداءات المباشرة للمدارس، وذلك عند رغبة أي جهة في إهداء المدارس كتبـًا خاصة بها، سواء من جانب دور النشر أو جهات علمية، ويكون مسؤول المكتبة والمدرس الأول مسؤولين عن مراجعة الكتب وإجازة دخولها. وربما كان هناك طريق ثالث لدخول الكتب تحت مسمى "التزويد المركزي"، أي ضخ الكتب عن طريق الوزارة، عن طريق الجهات المانحة وبروتوكولات التعاون، لكن هذا الأمر توقف منذ ثورة 25 يناير 2011. تتفاوت أعداد الكتب داخل مكتبات المدارس، فهناك مدارس يصل بها عدد الكتب إلى ٨ آلاف كتاب، في حين أن هناك مكتبات يوجد بها ٥٠٠ كتاب فقط، لذلك لا توجد إحصائية بعدد الكتب، لكن توجد قاعدة بيانات بالكتب الموجودة، كما أن هناك كتبـًا تراثية موجودة منذ أكثر من ٥٠ عامـًا، وتعتبر قديمة ومتهالكة وغير صالحة للأطفال في سن الابتدائي أو الإعدادي تحديدًا.
لجان المتابعة والتفتيش التابعة للإدارات التعليمية هي المسؤولة عن متابعة المكتبات، إضافة إلى دور موجهي المكتبات الذين يقومون بمراجعة المكتبات من حيث المحتوى بشكل دوري، ومتابعة المشكلات التي تظهر، إضافة إلى الجرد السنوي، الذي لا يقتصر فقط على جرد النواقص أو استبعاد الكتب المتهالكة، وإنما يستهدف الكتب التي أثير حولها جدل.
مرة أخرى نجد أنفسنا في اشتباك مع قضية التعليم، وما يحدث فيها، ومع المدرسة التي يُنظر إليها على أنها "مؤسسة بيروقراطية" محمية، محصنة، لا يجوز أن تكون في تواصل مع المجتمع، مكان للتلقين وليس للتفكير النقدي الإبداعي. هؤلاء الذين قاموا بحرق كتب في فناء المدرسة لأنها تحض على العنف –وهو أسلوب مرفوض في الأساس فضلًا عن أن الكتب لم تكن تحض على العنف- نسوا أو تناسوا أو سعوا لإبراء ذمتهم من موجة التطرف التي تخيم على المجتمع، والتي لا يمكن معها الحظر؛ لأن الفضاء الإلكتروني والأرصفة والإعلام وبعض الخطابات الدينية ينضح بالتطرف.
لا يمكن مواجهة رياح التطرف سوى بتربية الجيل الجديد على التفكير الصحيح، والتحلي بالعقلية النقدية، والقدرة على اتخاذ قرار في الحياة، وتوقير الحياة السلمية، والسعي الدائم إلى المشاركة في المجتمع، والارتباط بالحركة التطوعية، والانفتاح على الثقافات الحديثة. باختصار أن تكون المدرسة مؤسسة "تكوين" وليست كيانـًا بيروقراطيـًا للتلقين. يتعين أن نتذكر هنا أن العقلية التي تعودت على التلقين تكون سهلة طيعة أمام خطابات التطرف، كما أن أغلبية المتطرفين خريجو جامعات، وبعضهم من خريجي ما يطلق عليها "كليات القمة" في العُرف المصري.
إن تكوين الرأي الصحيح، وممارسة النقد الذاتي، وعدم الاستماع طواعية إلى خطابات التطرف، هي وسائلنا إلى مواجهة الأصوات المنغلقة والمتشددة، أما حرق الكتب فهو تصرف عبثي مرفوض في كل الأحوال.