من رحم المعاناة يولد الصبر.. حكاية طفل القمر الملعون بالتنمر
قاعدٌ القرفصاء مُفترشا الأرض رغم برودتها، يستجدي الدفءَ من ثنايا الظلام الذي يغمره؛ واقيا إياه خطر النور، يضُمُ لعبته التي يراها صديقته الوحيدة، هامسًا في أذنها ببعض الأمنيات التي استعصت عليه دون غيره من بني سِنه، لا تجيبه؛ فيظنها توافقه الحديث؛ فيبتسم لها.. بينما يواري جفناه دموعا أعلنت ثورتها على أنفس البشر المريضة.
يكسر ظلام الغرفة شعاع ضوء خافت تسلل إليها مع دخول الأم؛ لتُصعق بسؤال وليدها: ماما.. هو أنا وحِش؟.
6 أعوام من المُثابرة والنضال عاشتها عزة شميس، 30 عامًا، مع وحيدها عمرو، الذي انتقاه القدر ليكون أحد المُصابين بمرض أطفال القمر، والذي لا يصيب سوى واحد من بين كل 100 ألف طفل في الشرق الأوسط، ليُكتب عليه حياةً لطالما قرنها الناس بالأساطير، كتلك التي يحياها مصاصو الدماء الخرافيون في صندوق كبير يُسمى "البيت"، حيث تَحده أشعة الشمس عن الخروج نهارًا، فيما يحبسه الخوف من التنمر عن الخروج ليلًا، لتكون النتيجة حياة ليس فيها معارف سوى جدران المنزل الذي يأويه وبعض الألعاب.
مرض أطفال القمر
أطفال القمر هو مرض وراثي نادر، ينتج غالبًا عن زواج الأقارب دون إجراء الفحوصات اللازمة قبل الزواج، كما هي حالة عمرو، وهو عبارة عن حساسية شديدة في الجلد ضد الأشعة فوق البنفسجية التي تبعثها الشمس، حيث يحترق جلد المُصاب بهذا المرض فور التعرض لها، وتصحبه الإصابة بسرطان الجلد، ورغم أن الطب لم يعرف له علاجًا حتى الآن، إلا أن الأمل في الشفاء لا يزال يجد طريقه إلى الأم وابنها.
اكتشاف الإصابة. طفل القمر يزور عمرو مبكرًا
عند سِن عامين، وقبل أن يتجمد وقت عمرو عند الليل، حفر الزمن أشد الذكريات سوءً داخل عقل ذاك الرضيع الذي لم يكن يُدرك من الدنيا مثقال ذرة، حين علم الأب بمرض وحيده فلم يكن منه سوى التخلي دون أن يرتد إليه طرف أو يغص له حلق.. عصف قراره بالصغير وأمه؛ فالتحفا البكاء؛ دقائق وتعالت صرخات الطفل مع قرار الأب بإخراجه ووالدته من المنزل عُنوة، أما عن الأم، فلا تسأل عن سبب كسرتها، لكونه الزوج والأب؟! أم لأنه ابن العم ويُفترض أنه سند؟!
تلك الذكرى التي لا تنفك تُلاحق الصغير تثير بعض التساؤلات في عقله، لا يجد لها مخرجًا سوى بطرحها على أمه: "هو أنا وحش يا ماما؟!.. ليه بابا مش بيسأل عليا؟!"؛ فتجيبه الأم بابتسامة، حاولت بها تدارك دمعتها قبل أن تخونها: "أنت طفل القمر يا عمرو.. أنت أجمل طفل في الدنيا"، لكن في قرارة نفسها تعتصر قهرًا على ما أصاب حصاد حياتها بأكمله، ورغم ضعفها.. إلا أن عليها التظاهر بالقوة ليتقوى بها من ليس له سواها.
هو لسه عايش؟!.. جُملة لم تبنها الكلمات كباقي جُمل اللغة العربية المعهودة بالنسبة لمسامع الأم عندما ألقاها عليها أحد الأطباء، لتكون بمثابة كتل الجمر التي أحرقت قلبها فور ترجمة أذنها لمعناها، حيث نصحها الأطباء بالتوقف عن المُحاولة وانتظار السر الإلهي حتى يحضر، لكنهم حين قدموا تلك النصيحة، غاب عن عقولهم أنها أم، وأن غريزتها تُحتم عليها المُحاربة حتى آخر أنفاسها، وإن دفعت حياتها ثمنًا لذلك.
من غرفة عمليات إلى أخرى، ومن طبيبٍ إلى مِثلهِ، يتنقل الصغير ذو الثمانية أعوام، بين جراحة لأخذ عينة من الورم؛ حتى يتم استئصاله، وأخرى للترقيع والتعويض، وصبر الأم حاضر لا يغيب، والدعاء سيد الموقف، إلا أن النتيجة تسوء، ولا يزال الورم ينتشر بوتيرة سريعة؛ فلم يعد الصغير يفزع حين يرى دمًا يُنزف من مناطق مُتفرقة من جسده دون مُسببات، فقد اعتاد الأمر بعد 6 سنوات من التعايش، لكن الأم لم ولن تعتاد مُعاناة طفلها، وإن عاشت على عمرها أعمارا.
لعنة التنمر تطارد طفل القمر
ألسنة الناس كسياطِ الجلادين، تجلد نفسية عمرو وأمه، كلما اضطرتهم المواقف للخروج عن جُدران المنزل.. "أنت محروق؟!. إيه اللي في وشك ده؟!. ليه شكلك كدا؟!"، أسئلة لطالما كانت كافية لقتل روح لا ذنب لها في اختيار القدر، جعلت الحالة النفسية لصغير لا زال يتلعثم لسانه في النطق بأبسط الكلمات، أسوء ما يكون؛ ليكره الناس والشارع، وحتى المرآة والصور، وآثر الوحدة التي فرضتها عليه الظروف قهرًا.
لعمرو الحق في الخروج والحياة والتعلم والتعايش، وعلى الناس التقبل أو التجاهل، ولكن متى تنتهي معاناة عمرو وأمثاله؟.. لنا عند الزمن إجابة مُعلقة.