الإثنين 23 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

"كرة القدم في الأدب المصري".. مصطفى بيومي يقدم أبو المعاطي أبو النجا نموذجًا

غلاف الكتاب
ثقافة
غلاف الكتاب
الإثنين 12/يوليو/2021 - 10:32 ص

أصبحت كرة القدم كالأفيون بالنسبة للشعوب، لا يمكن عدم لعبها أو على الأقل لا يمكن تجنب الخوض فيها، فعشاق الكرة المصرية ينتظرون بشغف مباريات كرة القدم ويترقبون نتائجها، وتكثر التكهنات التي تكون متفاوتة ومختلفة حد التضارب بين المبالغة في توقع النتيجة بين الفوز الكاسح أو الهزيمة المنكرة، كما تتباين ردود الفعل بعد المباريات.

في كتاب "كرة القدم في الرواية المصرية" للكاتب الصحفي والروائي والناقد مصطفى بيومي، يرصد فيه معالجة الأدب لظاهرة كرة القدم، أصبحت كرة القدم كالأفيون بالنسبة للشعوب، لا يمكن عدم لعبها أو على الأقل لا يمكن تجنب الخوض فيها، فعشاق الكرة المصرية ينتظرون بشغف مباريات كرة القدم ويترقبون نتائجها، وتكثر التكهنات التي تكون متفاوتة ومختلفة حد التضارب بين المبالغة في توقع النتيجة بين الفوز الكاسح أو الهزيمة المنكرة، كما تتباين ردود الفعل بعد المباريات.

في كتاب "كرة القدم في الرواية المصرية" للكاتب الصحفي والروائي والناقد مصطفى بيومي، يرصد فيه معالجة الأدب لظاهرة كرة القدم، ومنهم أبو المعاطي أبو النجا الذي أفرد له فصلًا في الكتاب جاء فيه:

ترصد رواية "ضد مجهول"، التي تدور أحداثها صيف سنة 1954، مرحلة التحولات الاجتماعية والسياسية في أعقاب ثورة يوليو 1952. فكرة تأسيس النادي في قرية "الزهايرة"، وطبيعة الأنشطة المصاحبة له، وأسلوب التمويل والدعم، وما يترتب على ذلك كله من تداعيات، هي الأدوات التي يتشكل من خلالها الرصد والتحليل للكشف الدقيق العميق عن طبيعة المرحلة التاريخية المهمة، بتفاعلاتها المعقدة وتداخلاتها المتشابكة المركبة.

الوفدي عباس بك المواردي، المالك الزراعي الكبير، الذي لم يكن يظهر في القرية إلا في موسم جمع القطن، تتغير عادته الراسخة ويتردد على القرية كثيرًا، ما يستدعي تساؤلًا تخالطه الدهشة من الحاج إبراهيم: "ماذا يجري في الدنيا في هذه الأيام؟".

الابن الشاب المثقف، شريف عباس المواردي، يشير إلى الثورة بعد عامين من إطاحتها بالنظام الملكي، على أنها "الظروف الأخيرة"!. ليس وفديًا مثل أبيه، لكنه يتخذ موقفًا سلبيًا من الثورة، ويرى أنها تطيح بالإخوان المسلمين والوفد والأحزاب جميعًا لتنفرد بالسلطة وحدها دون شريك، والرأي نفسه يتبناه محمد الجندي المتعاطف مع الثورة، عبر صياغة دقيقة تتوافق مع شخصيته الاستثنائية غير التقليدية: "لا أدعي أني أفهم في السياسة، ولكن المسألة ببساطة إما أن تحكم الثورة أو لا تحكم، ولو قبل الوفد كل ما نادوا به فلم يكونوا ليفقدوا عذرًا للانفراد بالسلطة، تلك هي الحقيقة مع أني أحبهم وأحارب في صفوفهم لأنهم مثلي خارجون على القانون"!.

يتفق شريف المواردي ومحمد الجندي على فكرة تأميم الحياة السياسية واحتكارها، والاختلاف الكبير بينهما، سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، يعني بالضرورة اختلافًا مماثلًا في الدوافع والأسباب التي تفضي إلى نتيجة لا تحظى باهتمام حقيقي من الأغلبية الساحقة غير ذات الصلة بالسياسة والثقافة معًا!.

ينجح نظام ثورة يوليو في إقصاء وتهميش منافسيه، ولا يقدم بديلًا تنظيميًا مقنعًا مشبعًا، فالتنظيم السياسي الأول المعبر عن الثورة يبدو هزيلًا هزليًا يستحق سخرية شريف اللاذعة: "هيئة التحرير مثل "فريق الأسد المرعب" ترحب بمن يلعب ومن لا يلعب"!.

كرة القدم، في رواية أبو المعاطي أبو النجا، هي المعادل الموضوعي للحياة الجديدة وما تحفل به من صراعات اجتماعية في ظل فراغ سياسي، فهي اللعبة- الإطار، وهي اللعبة – الرمز. شريف الماوردي هو صاحب اقتراح تأسيس النادي، ويطوف بصحبة بعض تلاميذ القرية لجمع التبرعات من الأعيان والوجهاء القادرين على المساهمة. النادي المقترح لا يقتصر على كرة القدم بطبيعة الحال، لكن الكرة هي النواة والبداية، ووفق تعبير شريف نفسه: "لنبدأ بما لا يحتاج إلى نقود.. تكوين فريق لكرة القدم.. عندي كرة.. وجرن الوسية الآن خال من المحاصيل، وسيكون مكان الملعب هو مكان اللقاء.. المهم أن نصل إلى الجوهر.. أو إلى بعضه".

 

 

تفكير عملي يتحرك صاحبه وفق المتاح من الإمكانات، دون انتظار لاكتمال المقومات التي قد تتأخر طويلًا. شريف، سليل الأسرة الوفدية الثرية، التي زلزلتها ثورة يوليو ولم تقض على مكانتها تمامًا، هو الأكثر حماسًا لكرة القدم، والأعظم إدراكًا لما فيها من الأبعاد الفلسفية التي تتجاوز الظاهر المباشر للعبة: "الذي يجيد اللعب بالكرة يجيد كل لعبة أخرى.. فكرة القدم هي الفن الذي يحتوي كل الفنون".

قد يكون صحيحًا أن الكرة لن تؤثر على الشعر، فلكل منهما ساحته المختلفة المغايرة، لكن اللعبة الشعبية واسعة الانتشار تمثل تهديدًا مباشرًا خطيرًا للمسرح، ذلك أنها تحمل كل سماته ومقوماته، وتستطيع أن تستقطب وتجذب قطاعًا واسعًا من جماهيره، عبر آليات أكثر بساطة وأعظم جاذبية: "لا أخاف على فن الشعر من فن الكرة.. ولكني في الحقيقة أخاف على فن المسرح.. فالكرة هي المسرح.. صراع صامت.. وحوار بلا كلمات.. أو بكلمات بسيطة يفهمها كل الناس".

الموقف السلبي المتحفظ يمثله أحمد، فهو لا يعتقد أن كرة القدم نشاط جدير بالاهتمام، ودليله على ذلك أن كثيرًا من البلدان المتخلفة "تجد عزاءها في التفوق في الكرة".

بين هذين الموقفين المتناقضين المتعارضين، يطرح صبري تساؤلًا مهمًا لا ينتظر الإجابة اليقينية الحاسمة، فالأمر كله يقع في دائرة الاجتهاد الذي لا يعانق الحقيقة المطلقة:

"- أي سر في هذه اللعبة. سحرها لا يخيب في أي بلد؟ ومع أي ناس؟ في القاهرة كما في الزهايرة كما في كل بلاد العالم؟.

قال أحمد:

- من الذي قال مرة إن الكرة هي المسرح؟

قال شريف في اعتداد مرح:

- طبعًا لا أحد غيري يبدي مثل هذه الملاحظات الرائعة".

التأكيد على العلاقة الوثيقة بين كرة القدم والمسرح أقرب إلى الحقيقية التي لا تقبل التشكيك والجدال، لكن أحمد يتجاوز فكرة التشابه الثنائي ويرد الظاهرتين معًا، المسرح وكرة القدم، إلى الحياة في خلاصتها وجوهر فلسفتها. ليس ممن يتعلقون بالكرة، ذات الشعبية الطاغية والتأثير السلبي في البلدان المتخلفة، حيث تتحول إلى أداة تنفيس وعزاء وتكريس للوهم، لكنه يرصد ما في إيقاعها من قدرة على تجسيد الحياة الإنسانية وتجلياتها المختلفة: "ليست الكرة هي المسرح بل هي الحياة ذاتها، الحياة مركزة ومقطرة.. التنافس مركز والتعاون كذلك.. والاثنان معًا في لعبة واحدة. عبقرية الفرد في المحاورة، وعبقرية الجماعة في تبادل الكرة.. التنافس والتعاون في وقت واحد معًا لأول مرة، وفي مكان تراه العين الواحدة".

كرة القدم هي الحياة، بكل ما فيها من صراعات ومفارقات ومفاجأت وانتصارات وهزائم وأحزان وأفراح، تجمع في انسجام وتناغم بين الفرد والجماعة، التنافس والتعاون. في كلمات قلائل، يصل محمد الجندي إلى صياغة دقيقة تعبر عن جوهر السحر الذي تمثله كرة القدم وتنتشر بفضله:

"- الكرة حرب نظيفة يتفرج عليها الناس وهم آمنون!

قال شريف محتفظًا بنبرة السخرية:

- كما يتفرجون عل الأسد في حديقة الحيوان وهم مطمئنون، وهكذا يشبعون حاجتهم إلى رؤية الخطر والأمن متجاورين، وهم في الواقع لا يرون سوى الأمن والأمن، ولكنها خدعة ظريفة كخدعة الكرة".

هذه هي المسألة في إيجاز: أن تشاهد كأنك تشارك، وتندمج في الخطر ولذائذه من مقاعد آمنه بلا شبهة هلاك أو أذى. الأمر نفسه في المسرح الذي يطهّر ويفرض على المتلقين اندماجًا آمنًا دون مخاطرة، ذلك أن الآخرين- الممثلين هم من يحملون العبء كله عبر أدوار متقنة.

قرية الزهايرة لا تمثل استثناء في منظومة القيم والمعايير التي تحكم العالم، وسكانها مثل غيرهم من أهالي الريف المصري: "يعملون دائمًا كجماعات في أعمال البذار والتنقية والحصاد ولكنهم يعيشون حياتهم بعد ذلك كأفراد..

بعيدًا عن أوقات العمل لا يلتقي الناس في قرية الزهايرة كجماعة إلا في المناسبات.. في المآتم وفي الأعراس، وفي الموالد، وفي المساجد لأداء الصلاة".

ثنائية الفردي والجماعي هذه تدّعم وتبرّر الانتشار السريع لكرة القدم، اللعبة التي تقدم حلًا سحريًا للازدواجية. يذوب الفرد في الجماعة، ولا تطغى الجماعة على ذاتية الفرد. مثل المآتم والأعراس والموالد وتجمعات الصلاة في المساجد، تمثل الكرة مناسبة للتداخل والاندماج الآمن مع الآخرين، دون تفريط في الفردية، واللقاء في ساحتها بمثابة الاحتفال الذي يتحرر به المشاركون من جحيم الوحدة والجفاف. لا غرابة إذن في الانتشار السريع والاهتمام الطاغي الذي تبديه القرية باللعبة التي تتسرب إلى قاموس حياتها. يتعلق الصغار بالكرة، ذلك أن فكرة اللعب هي جوهر حياتهم بشكل عام، ثم يبدأ طوفان الإعجاب والمتابعة، قوامه رجال من مختلف الأعمار، يتوافدون على الجرن: "يتفرجون ويسألون.. ويحاولون بدورهم أن يكتشفوا أسرار هذه اللعبة، ويفكوا مغاليقها، وأن يشتركوا فيها بالكلام أولًا.. ثم يفاجأوا بأنهم قد أصبحوا جزءًا من اللعبة وأن اللعبة توشك أن تصبح دون أن يشعروا جزءًا منهم.. جزءًا من حياتهم".

انتشار سريع يفوق التوقعات، وسرعان ما تتحول اللعبة إلى جزء مهم من نسيج الحياة اليومية في القرية. لا يملك شريف نفسه إلا أن يتساءل، كأنه لم يتخيل أن فكرته ستحقق مثل هذا النجاح: "من كان يتصور أن يكون للعبة الكرة هذه الشعبية في الزهايرة؟".

الكبار يسبقون الصغار ويزاحمونهم في الفرجة، والشعبية السريعة دليل عملي لا يمكن إنكاره على السحر الذي تمثله كرة القدم بفضل ما تتضمنه من مفردات ذات جاذبية لا تُقاوم، فكأنها المسرح الذي يعيد إنتاج الحياة ويكثفها، أو كأنها الحياة نفسها!.

 

كرة القدم تسيطر على اهتمام الفلاحين

تسيطر كرة القدم على اهتمامات الفلاحين في القرية، فهل تنجح اللعبة الشعبية المثيرة في تذويب الفوارق بين الطبقات المتصارعة المتناقضة؟، وهل تنجح في ملء الفراغ متعدد الأبعاد الذي يبدو مهيمنًا قبل ظهورها وانتشارها واستحواذها على القلوب والعقول؟!. المنافسة على أشدها بين الثري الأرستقراطي شريف المواردي، ومتوسط الحال ابن الطبقة المستورة صبري، والأجير الكادح عطية القابع في القاع الطبقي. ثلاثتهم من الموهوبين البارعين أصحاب المهارة العالية، والملعب يوحّدهم ويؤّلف بينهم: "ما لم يخطر ببال أحد أن أجيرًا مثل عطية يصبح لاعبًا لا يقل خطورة عن صبري وقد يتفوق عليه، وقد يصبح منافسًا لشريف، جاء ليساعد رجب في تنظيف الملعب ورسمه ثم وقف يتفرج ويعيد لهم الكرات البعيدة، ثم اشترك في اللعب مكان تلميذ مصاب، ومن يومها وهو يحتال كلما واتته فرصة فراغ ليشارك في الملعب، قال له رجب محذرًا:

- لو علم الشيخ عرفة أنك تجيء إلى هنا وتلعب فلن تغرب عليك الشمس في داره.

قال عطية الذي بدأ سم الكرة يسري في دمه أيضًا:

- أعمل عند غيره.

قال رجب:

- ولن تغرب عليك في دار غيره، وسترى.

- أعمل باليومية.. ورزقي على الله".

تتحول الكرة إلى المتعة الأسمى في حياة عطية الأجير الكادح، وفي سبيل إشباع هوايته لا يبالي بالتخلي عن ثوابت حياته القديمة. الانسجام بين الثلاثي الطبقي، شريف وصبري وعطية، لا يعني نشأة صداقة حقيقية عابرة للطبقات خارج الملعب: "ذلك عالم جديد تحكمه معايير جديدة.. تسمح لشريف وصبري وعطية أن يكونوا ثالوثًا خطيرًا متفاهمًا ومنسجمًا.. أصدقاء حقيقيين داخل الملعب وخارجه، ولكنهم أصدقاء كرة فلم يكن أحد منهم ينسى المسافات الفاصلة حين لا تكون هناك كرة ولكنها يجب أن تبقى دائمًا تلك الكرة المستديرة.. تلك الدائرة الملأى بالهواء التي تلتهم في جوفها كل الدوائر الأخرى".

تؤكد المؤشرات جميعًا أن كرة القدم قد ولدت لتبقى وتستقر وتزدهر، فكأن "الزهايرة" على موعد معها. لا متسع للتفكير في الاستغناء عنها والعودة إلى إيقاع ما قبل ميلادها: "وكان لا بد أن تمضي أيام ليشعر الناس أن الكرة يجب أن تبقى.. ليتفقوا جميعًا على هذا المطلب ويختلفوا بعد ذلك في الأسباب".

الشعبية الطاغية للكرة، والاتفاق على الإعجاب بها بما يشبه الإجماع، لا تعني غياب المعارضين والمتحفظين والمتخوفين من الآثار السلبية المترتبة على انتشارها، ومن ذلك ما يقوله صبري: "كل الأولاد يريدون أن يصبحوا نجومًا، ولن تجدوا بعد اليوم من يزرع أو يقلع!".

التطلع إلى المجد والشهرة لا يقل أهمية عن الطموح القديم إلى السعي وراء الرزق واستمرار الحياة. الإسراف في التعلق بالكرة يدفع الكثيرين إلى إهمال العمل والتعلق المتطرف بالساحرة المستديرة التي تسكن القلوب وتوجه السلوك: "حسنين النجار يفتقد ابنه رشاد فيرسل أخاه محمود ليبحث عنه هناك في الملعب ثم يجلس في انتظار الاثنين دون جدوى! وأمام دكان الخلفاوي يتردد سؤال يسبق كل الأسئلة: هل هناك لعب اليوم؟ وأصبح الملعب مكانًا يتواعد الناس على اللقاء فيه! كما أصبحت الكرة وراء كل الأعمال المعطلة والمؤجلة، وصرخ الشيخ عرفة مأذون القرية: إلى متى سنسكت على هذا الحال المائل؟ ولكن صرخته تبددت في الهواء، وحين اهتم بعضهم بصرخته قالوا له:

- ولكنك تذهب إلى هناك! 

- ماذا أفعل. كلما سألت عن رجل لي عنده مصلحة قالوا: إنه هناك يتفرج على الكرة، فأذهب لأتفرج وأقضي مصالحي.

ويتحول الموقف كله إلى نكتة حين يسمع من يقول له:

- ولماذا تغضب إذن؟ أصبحت الكرة مكانًا لقضاء المصالح.

فيبصق الشيخ:

- ولتعطيلها!".

الكرة، مثل المسرح تمامًا، أداة جذب كأنها النداهة، ينشغل بها الجميع ويجدون فيها متعة ولذة تبرر إهمال العمل وإخلاف المواعيد. يحتج الشيخ عرفة بطريقته ويتورط في الفرجة مثل غيره، لكن عجوز القرية وحكيمها الحاج حبيب يتجاوز الإفرازات السلبية الملموسة المباشرة، ويتوقف أمام النتائج الوخيمة الأعظم تأثيرًا، معلنًا عن تخوفه وقلقه: "ولم يكن ما يقلقه هو المصالح المعطلة، ولا أن كل شيء في القرية بدأ يلوي عنقه ناحية الملعب، كان ما يقلقه وما أسر به إلى الحاج إبراهيم كالوصية شعورًا غامضًا بالخوف.. كأن خللًا أصاب دقات القلب الذي كان يدق بانتظام منذ بدأ ينصت إليه!

وترجم الحاج حبيب هذا الخوف بقوله:

- يا حاج إبراهيم أكبر عرس في القرية يبقى ليلتين أو ثلاثًا، أعظم الموالد يبقى سبعة أيام، وهذا أكبر وقت يمكن أن يستغنى الناس فيه عن عقولهم! أما أن يبقى ذلك ثلاثة أشهر كاملة..؟ فما معنى هذا؟".

يتصدى الحاج إبراهيم لتبديد مخاوف العجوز الحكيم وبث رسائل الطمأنينة، لكنه في أعماقه يشعر بقلق مماثل وتسكنه المخاوف، ولديه أسبابه التي تكتمل بها دائرة التوتر المكتوم الذي تُشم رائحته ولا يسهل الوصول إلى مصدره: "فلم يكن يخفي على عينيه البصيرتين ذلك التمزق الذي يصيب حياة الناس في الزهايرة.. حيث يعجز الآباء لأول مرة عن السيطرة على أبنائهم حين يتعلق الأمر بهذه الكرة الملعونة.. لا فرق بين تلميذ وفلاح.. فالجنون الذي يتولى شأنهم جميعًا داخل الملعب وخارجه لا يفرق.. ولأول مرة تتلاشى الحدود بين الصغار والكبار.. بين من يملك أرضًا ومن لا يملك سوى عافيته".

تصنع كرة القدم قيمًا جديدًا مزلزلة للسائد المستقر الموروث من عادات وأعراف يرتضيها المجتمع ويتمسك بها، ومثل هذه "الطفرة" غير المحسوبة ذات ظاهر إيجابي براق قد يكون جديرًا بالإعجاب، لكنها تخفي عوامل الصراع والاضطراب والخلل، ذلك أن الأحلام الوردية التي تراود الكثيرين بالصعود والتحقق لا تقبل التجسيد على أرض الواقع. الحاج إبراهيم، الذي يهوّن الأمر على العجوز حبيب، هو نفسه من تسكنه المخاوف العاتية الأقرب إلى الكوابيس: "إن التبجح والغرور والأحلام والتطاول، واختفاء الحدود الفاصلة، والعجز عن الإمساك بالمشاعر والكلمات هي الثمار الفاسدة التي ترتفع كل يوم مع الكرة، ثم لا تنخفض أبدًا، ثم ما هذه العواطف المهلكة التي بدأت تنمو حول اللاعبين، وبدلًا من أن يتباهى الأولاد كما كانوا طوال عمرهم بما ينجزون من عمل في اليوم أو في الساعة في الحقول.. أصبحوا يتباهون بعدد المرات التي أحرز فيها فلان أو علان أهدافًا في الفريق الآخر! لو ظل الأمر مقصورًا على التلاميذ لما كانت هناك مشكلة ولكن المشكلة الحقيقية هي اختفاء الحدود، وعجزهم عن إعادتها من جديد.. فمتى تنتهي على خير تلك الأيام؟".

لا تختلف أحلام الكرة في الزهايرة عن التطلعات والتحولات التي تبشر بها ثورة يوليو في عموم الوطن، ذلك أن تحطيم النظام القديم المستقر مشترك يجمع بين الثورة وكرة القدم، والأكثر حكمة وحذرًا يتخوفون من الاندفاع غير المحسوب الذي قد يطيح بكل شيء، القديم والجديد على حد سواء!.

تستعين الزهايرة ببعض أصدقاء شريف الوافدين من القاهرة، وينجح فريق "الأسد المرعب" من خلالهم في هزيمة فريق السنبلاوين في مباراة تشهد ازدحامًا تاريخيًا لم تعرفه القرية من قبل. تُطبع التذاكر وتُباع للمشاهدين بحثًا عن دعم مادي للنادي، ويشارك عباس بك المواردي في متابعة المباراة بصحبة العمدة وكبار رجال القرية، ويندمج الجميع في السحر الذي ينعش ويثير البهجة. بعد الانتصار، تخرج المظاهرات الصاخبة احتفالًا وتعبيرًا عن الفرحة الغامرة، فهل يمكن القول إن الانتصار حقيقي مقنع يعتمد على الجهود الذاتية؟!. الفريق الفائز لا يعبر عن القرية وقوتها الفعلية، فهو يمثل تحالفًا طبقيًا مهزوزًا هشًا يخلو من الصلابة والتماسك، وعندما يلعب الفريق الذي يمثل القرية بحق، حيث العناصر المحلية دون دعم خارجي، يتعرض لهزيمة ثقيلة قاسية، وتنتهي المباراة- الحياة البديلة بمشاجرة دامية تسفر عن سقوط قتيل من أبناء المركز، ويولد كابوس لا تتبخر آثاره الكارثية.

الهزيمة في المباراة الثانية أكثر تعبيرًا عن الواقع الحقيقي الذي لا تتوافر فيه أدوات الانتصار والتحقق: "الكرة هذه المرة في أقدام فريق السنبلاوين يتلاعب بها وبفريق الزهايرة الذي لا ينجح إلا في تشتيتها حينًا وفي الإمساك بها في أحيان قليلة".

الفريق الضيف، الأكثر قوة ومهارة والأعظم خبرة وحنكة، يتلاعب بفريق "الأسد المرعب" الذي ليس له من اسمه نصيب. يتحول الأمر إلى مهزلة وصراع  غير متكافئ، وتنهمر الأهداف المهينة، ويهيمن الحزن الذي يدفع إلى الشجار المأسوي العنيف، وليد العصبية والشعور الطاغي بالإهانة وقلة الحيلة. 

الانتصار في المباراة الأولى زائف لا يعبر عن معطيات الواقع وتفاعلاته، والسلوك العدواني العنيف بعد الهزيمة ليس جديدًا على الزهايرة: "ما من عرس أو مولد في قرية الزهايرة أو في غيرها يمضي دون شجار، إن لم يكن بين الكبار فبين الصغار، وحين تسكن العاصفة، ويبدأ العقلاء في البحث وراء الأسباب، يهولهم اتساع المسافة بين الأسباب والنتائج".

مثل احتفالات الأعراس والموالد، لا تنجو مباراة كرة القدم من الشغب والشجار، والقتيل الذي يسقط من أبناء السنبلاوين ليس إلا ضحية لسيطرة الأحلام الخارقة التي ترادف الأوهام. نهاية مأسوية لحلم قصير ساحر تمثله الكرة، وقبل المباراة بكل ما يترتب عليها من آثار وخيمة، يبدو صبري حكيمًا بعيد النظر عندما يقدم تحليلًا ذا طابع سياسي، يتجاوز كرة القدم إلى الثورة ونظامها الجديد، بل إنه يتجاوز الثورة إلى فلسفة الحياة الإنسانية بشكل عام: "حين تجد أن الأغلبية في بلدك أو في أي بلد آخر هي التي تخسر المباراة دائمًا، ألا يعني هذا أن ثمة خطأ في نظام اللعبة نفسها؟ وأن يصبح هدفك ليس مجرد البحث عن بداية جديدة لنفس المباراة، بل البحث عن نظام جديد للعبة يفوز فيها من يبذل العرق والذكاء بحق".

أين يكمن الخطأ؟، ولماذا يموت عامل السنبلاوين الفقير ثم يلحق به رجب الصعيدي من فرط التعذيب في قسم الشرطة؟!. هذا هو السؤال المهم الذي تطرحه الرواية الأكثر أهمية في التعبير الفني عن فلسفة كرة القدم وأهميتها، والكشف في براعة وبساطة عن السر في انتشارها وازدهارها من ناحية وما قد يترتب عليها من كوارث مدمرة من ناحية أخرى.

تابع مواقعنا