"قَدَرُ الغُرفِ الباردة".. قصة قصيرة لناصر خليل
أدخل الغرفة، تهاجمني برودتها بضراوة كأنها وحش مفترس رأى أخيرا طريدته التي أعيته انتظارا، أضيء أنوارها بكبسة زر، مازالت الرؤية غبشاء، رغم الشمس الساطعة في الخارج، الظلام يعربد هنا في أمان من نورها، أُلقي تحية الصباح عليهم، كالعادة لا يردون. أتفقدهم؛ أتأكد أن كل واحد منهم في مكانه منذ أن تركتهم مساء الأمس – أعلم أنهم لن يغادروا أماكنهم التي اخترتها لهم ما لم أمرهم بذلك – لا خيار لهم سوى طاعتي والإذعان لإرادتي، أنا المسئول عنهم ومن يتولى رعايتهم، اطمئن على تجارتي كما يفعل أي تاجر بداية كل صباح قبل أن يبدأ عمله.
أدخن سيجارتي الخامسة بشراهة منذ أن دخلت الغرفة رغم قصر الدقائق التي مرت، أحبس الدخان داخل صدري أطول وقت ممكن، اجعل أنفي سبيل خروجه الوحيد عندما أطلق سراحه على مهل. لا أدخن كما يفعل الآخرون حبا في التدخين، أو هي عادة علقت بي في الصغر ولم أستطع التخلص منها أو غواية صديق سوء في مرحلة المراهقة، لكنني أطرد بها روائحهم النتنة التي ما فتئت تهجم على أنفي كلما أدخل عليهم، لم تفلح سنوات عملي الطويلة في التعود عليها.
أمسك بمقبض الدرج رقم (1)، إنه شديد البرودة، يقشعر بدني حين ألامسه، تسري برودته عبر مسام جلدي، تقتحمني، أشده ناحيتي، ينفتح، ألقي نظرة على من بالداخل، لا يتبرم من اقتحام خلوته وخصوصيته، أرجعه مكانه وهكذا في حركة آلية تتكرر كل مرة حتى أصل الدرج رقم (50) حين أفتحه، يفاجئني بوجهه الشاحب الأبيض، تتغير ملامحه يوما بعد يوم، يتهرأ وجهه، فمه تهدل حتى ارتاح على أعلى صدره، سوائل لزجة عفنة تحوطه، رائحته لا تطاق، أنفث بعضا من دخان سيجارتي في وجهه، لا يتأفف، أو يشيح بوجهه عني، أحادثه كما لو أنه سيبادلني الحديث:
- ايييه يا خمسين...مفيش حد عايزك ولا أيه...معصلج ليه الشهر قرب يخلص...حتروح كده مني فطيس من غير ما نستفيد منك بحاجة!!!
يقطع حديثي رنين هاتفي، انظر لشاشته، إنه مديري المزعج، لا بد أنه هناك وافد جديد، أدفع الدرج، ينزلق، يعود لمكانه، يتوارى. أضع الهاتف على أذني، بكل هدوء، أنصت ثم أرد:
- يا فندم...مفيش مكان واحد فاضي.
يأتي صوته غاضبًا:
- أتصرف يا بني أدم.
ينهي المكالمة غاضبًا كما بدأها.
ألقي عليهم النظرة الأخيرة قبل خروجي، نفس الكلمات تخرج من فمي ككل مرة: -
- استعدوا للمقابلة اليوم... يمكن تفرج عليكم وعليَ...!!!
أفتح الباب الحديدي فيصر، أخرج إلى الصالة الغبشاء، يتسرب الضجيج، الصراخ، السباب للداخل، يبدد صمتهم - لن يتبرموا أو يشتكوا - أغلقه خلفي بقوة، تهتز اللافتة المكتوب عليها "ثلاجة المجاهيل" أشعر بالدفء يغمر جسدي بعد أن تيبست أطرافي من برودة غرفتهم وأجسادهم. بينما أعبر الصالة متجها لغرفة المشرف، يتشبث بي أحدهم ويصرخ في وجهي:
- أنت أيه حجر...ارحم... خلصنا وليك الحلاوة!!!
أتوقف متأففا، هو يعرف أنني سأرد عليه ذات الرد وللمرة الرابعة منذ الصباح وبنفس نبرات الكلام "لما يجي تصريح الدفن يا محترم “، محدقا ببلاهة في عينيه، أكمل طريقي وأتحاشى الدخول معه في حوار مكرور لا فائدة منه.
أصل غرفة المشرف، ما إن يراني حتى يشير إلى رجل عجوز متكوم فوق بلاط أرضية الغرفة ويقول:
- الاصتباحة يا عم، بيدور على ابنه بقاله شهر، يمكن تفرج على أيدك ويلاقيه!!!
- يا ريت... احسن العملية مئشفرة قوي اليومين دول!!!
أتقدم نحوه، الحزن بدل هيئته، بدا كطيف بلا ملامح محددة، أُمسكُ بيده اليمنى، أشده ناحيتي ليقوم، يستوي بعد جهد وصراع مع جاذبية البلاط العاري، يحاول أن يفك التصاقه بالأرضية، ما إن يعتدل يحافظ على ساقيه مستويتين ومتقاربتين.
- يلا معاي يا محترم....
يتبعني دون أن ينطق بكلمة واحدة. ما أن يدخل غرفتهم حتى يضع يده على أنفه، أنظر إليه وأقول:
- معلش الفورمالين، الدم، التحلل، التعفن...أنت عارف...دقايق وحتتعود!!!
- فين هو؟؟؟؟
أضحك رغما عني وأقول:
- لو احنا عارفينه مكنش جه هنا، ولا حتى انت جيت هنا...كلهم هنا مجاهيل يا عم الحج!
- يعني ايه...؟
تخرج كلماتي معجونة بقسوة وبلا تهذيب:
- يعني لو حكمت حتشوف الـخمسين درج اللي هنا.
- يا رب.... كلهم!!!
- واحد...واحد...وتحقق فيهم كمان!!!
أعرف تلك العلامات في وجوههم عندما تقترب لحظات مقابلتهم، أفتح الدرج الأول، يقترب، ينظر، يهز رأسه يمنة ويسرة:
- عُمر...ولدي كان في نهائي حقوق...صغير ع الموت...يا ريته ما ساب البلد عشان يتعلم في مصر!!!
انتقل للدرج الثاني، تند عنه نفس الإيماءة:
- حاقول ايه...كان مالنا ومالهم، يعني خروجكم في المظاهرات هو اللي كان هيعدل الحال، مت يا عمر انت واللي زيك والحال هو الحال... ما في حاجة تغيرت، يا حرقة قلبي وقلب أمك عليك!!
الدرج العاشر...
- عمر شاب...وده عيل صغير.
الدرج الثلاثون، تظهر أمارات التعب في وجهه، لكن نحن مضطرون أن نكمل:
- سيد أبو سويلم صاحبه قال إنه مات مضروب بتلت رصاصات في صدره وقعد ينزف لحد ما مات، وسط الهرج محدش عارف مين اللي قتله وليه قتله ولا حد عرف بعد كده فين جثته!!!
الدرج الواحد والأربعون...
- أقول أيه لأمه لو ملقيتش جتته، لازم ارجع البلد بجتته وادفنه عشان أمه ترتاح لازم.
الدرج الخمسون والأخير...
يقف وقتا أطول من سابقيه، يدقق النظر في وجهه، لا يبدي أي إشارة، وجهه جامد كصخرة:
- ها يا حج.. هو ولا موش هو؟
- بصراحة يا بني...نفس جتته، نفس طوله...بس ده موش ابني.
- عرفت ازاي!!
- ابني شعره ناعم وطويل وده شعره أكرت وقصير.
- كده تمام... ابنك موش عندنا...دور عليه في مكان تاني.
يمنع نفسه من الانزلاق إلى هوة ما لا أراها، يتشبث بذراعي، يميل ناحيتي بجسده المتفكك، أفشل في منعه من الانهيار، يقع على ركبتيه، يمسك بيدي، يقبلها في توسل:
- لفيت كل أقسام الشرطة والمستشفيات، مفيش مكان تاني أروحه... لازم ارجع لامه بجثته، ادفنه ونرتاح...تعبت يا ابني.
انظر في عينيه، أفرغ بعضا من لامبالاتي فيهما، بكل برود أعصاب أرد عليه:
- اعملك ايه يا حج؟
- اديني واحدة من دول.
- ليه فاكرهم شوايل رز!!!
- مافيش حد حيعرف حاجة، حنكرمه وندفنه وأنت حانشوفك.
- حاتشوفني ازاي!!!
- معاي ألف جنيه خدهم واديني رقم (50)، اخده معاي البلد، ادفنه، وما حدش حيشوفه حتى أمه، من هنا على المقابر عدل، شوف نفسك.
- اتفضل يا حج...المعاينة انتهت.
وحدي معهم في الغرفة، كلماته مازالت تتقافز في أركانها، تخايلني، أفكر فيما قاله...رقم (50) سيدفن غدا في مدافن الصدقة، سيكتب على شاهد قبره مجهول، لن يتعرف عليه أحد بعد ذلك.
افتح درجه، أتأكد من أن ملامحه لن يتعرف عليها أحد، المدير العنيد يريد مكانا شاغرا لوافد جديد.
- اخد الألف جنيه، اصرف أموري ولا من شاف ولا من دري، نخلص الورق، (الدي إن أيه) والتحاليل، الاختام، ازبط المشرف ويخلص الورق.
أخرج للصالة، أجد العجوز مهدودا، مستندا للحائط، ينشط حين يراني، يقوم من مكانه، يتجه ناحيتي، يفاجئني، يحتضنني، يضع أوراقا نقدية في جيب قميصي في حركة سريعة، يهمس:
- اتفقنا!!!
أومئ برأسي، أخذه من يده، نذهب إلى غرفة المشرف:
- تعرف على رقم (50)...ابنه عمر.
- متأكد يا حج!!!
- ايوه يا بني.
- حلاوتي الأول.
أغمز بعيني لزميلي، أفرك بخفة إبهامي بسبابتي، حازما أقول له:
- خلصله ورقه...كله تمام.
يبكي العجوز، يسقط على الكرسي كعمارة ضربها زلزال للتو.
قبل أن أستدير وأنصرف لحالي، ينظر إليّ المشرف في خبث وبكلمات مليئة لؤما:
- ده موضوعه خلص، شايف الراجل اللي هناك، خده معاك... أخ بيدور على أخوه!!!
اقترب منه، اطلب منه أن يرافقني، أبدأ جولة جديدة، نتجه إلى غرفتهم الباردة.