الإثنين 25 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

من عزّ النوم.. قصة قصيرة لعبير عزاوي

عبير عزاوي
ثقافة
عبير عزاوي
الثلاثاء 20/يوليو/2021 - 10:20 م

لم يدرِ هل ما يحدث الآن حلم، أم أنها فعلًا تستند إلى صدره ويتجاذب القلبان أطراف النبض؟! 
منذ سُكِن البيت المقابل له وشرفته مشرّعة الباب، تصدح منها كلّ ليلة نفس الموسيقى التي كانت تزور أحلام مراهقته وتغزل حكايته، لم ير ساكنة البيت بل لمح ظلها يتراقص على ستارة الشرفة، ذكّره قوامها بـ "نهلة".


 استيقظ فزعا، لم تمض ِ سوى ساعة على خلوده للنوم، كان جدار عملاق يغطي الشرفة ويمنع عنه وصول الموسيقى.. ترتسم على الجدار خطوط سوداء بأشكال مرعبة،  كأذرع أخطبوط تتطاول ممتدة  تلتف حول عنقه وتضغط بكل قوتها، بينما الموسيقا ذاتها تتعالى وتتعالى لتتحول إلى زعيق يشبه عواء ذئاب. 
فرّ من فراشه يبحث عن كأس ماء، الظلام يهيمن على زوايا غرفته، جفل قلبه
اليوم أنهى جلسات علاجه النفسي ونصحته الطبيبة أن يجرّب النوم في الظلام. 
هذه هي المرة الأولى التي يجرب فيها أن يفعل ذلك منذ تسع سنوات.

امتدت أصابعه لتمسك كوب الماء فشعر بأصابع تلامس أطراف أصابعه، توقف قلبه عن النبض وخفتت أنفاسه، همس لنفسه بذات الطريقة التي يبدأ حديثه للطبيبة:
- أنا عاصم وهذه غرفتي، عمري 26.
هز رأسه ساخرا وهمس: 
-"حسنٌ لم أجنّ بعد"  
شعر بالأصابع تتسلل ببطء إلى شعره، تشدّه بتوجس ثم تنسحب فينسحب الظلام معها بأطراف راعشة نبّه نفسه: 
نحن في الصيف من أين تأتي البرودة ؟! 
وبمجرد أن خطرت البرودة في روعه هبط فوقه موج يشبه صقيعا كانونيا أخذه الموج، وهو مأخوذ بسرّ حصول أي أمر بمجرّد أن يفكّر فيه،
ربما هي مجرد هلاوس، آه من أدوية الاكتئاب.
أرعش البرد جسده فتمنّى لو يلفّه لحاف دافئ ضخم من ذاك الذي كانت تنجّده أمه في بيتهم القروي الكبير المفتوح على أربع الجهات؛ ولم يكد لفظ لحاف يتشكل في قريحته حتى غمره لحاف صوفي كبير تهدّلت أطرافه على الجانبين. 
 كادت أنفاسه تتوقف لولا أن دفئا لذيذا تسلل إلى عظامه الباردة، دفء ذكّره برائحة الصوف والنهر والمراعي الممتدة على طول بادية الجفر المتاخم للنهر. 
لم يكد يتذكر النهر والبوادي حتى هدر إلى جانبه شلال له طعم العذوبة ورائحة الفرات وأمواج عملاقة تغمره بمياه لزجة تلبّدت ملابسه عليه وشعر بانتعاش لذيذ وتذكّر 
أن هذه الليلة هي ليلة الانتصاف الصيفي، وقمرها له معه قصة قديمة.
الموسيقا الغريبة عاودت الزعيق المنفر، فانساب منحدرا تحت مخدته، مستغرقا في نداوة ما تبقى من موجة الفرات التي غمرته بريّها وما إن هدأ نبضه حتى انتظمت الموسيقا وبدأت تلتزم بسلمها النغمي ومقامها /الرصد / الذي ما دام أحبه، جميعهم يلفظون الصّاد مفخمة أما نهلة فتفتح الراء وترقق الصّاد وتلفظ الكلمة (راست) تمط ّصوتها فتسرق شيئا من قلبه.
وودّ لو تذكّر تلك الجملة الموسيقية واللحن الذي كان يتدرّب عليه انتصبت نغمة بيمول عملاقة حملته في التفاف بعدها الصغير وألقت به بعيدًا عن فراشه المبلّل بعرقه البارد أنهضته ساقته عبر ظلام الغرفة وأوقفته على حافة الشرفة ملتصقًا بحديدها النديّ برطوبة آخر الليل، صوت صادح بضحكة مرحة يصيح: 
  "فوكانيز" 
صوت نهلة يميزه من بين ملايين الأصوات، لم يتذكر نهلة الآن ! لكن متى نسيها 
الجدار المسودّ لا يزال ينتصب كعملاق أحمق بين شرفة البيت المسكون حديثًا  وشرفته، لكنّ النغم انتظم وبدأ يترقرق لحنًا يعرفه  من عزّ.. وتغيب الجملة الموسيقية.
تعيده  النغمة إلى معهد الموسيقا قبل تسع سنوات، رمشت أمامه عينا نهلة معلمة الموسيقى، عينان داكنتان واسعتان برموش كثيفة وخط كحل فاحم السواد. 
امتطّ خطّ الكحل التفّ حول خصره  وقاده عبر الممر المظلم لبيته، ارتقى به الدرج الخاصّ بالمبنى المقابل لمبناه حيث تلك الشرفة العجيبة، الموسيقى تنتظم وينصقل اللحن ذاته الذي كانوا يتدربون عليه لحفل اختتام الدورة السنوية للمعهد 
نهلة ترفّ كفراشة حول متدربيها، يتابعها الجميع بعيونهم، فيغار عليها من لسع النظرات، كانت أمهر مدربة وعازفة في المعهد، ومن أجل عينيها عشق الرصد، المتدربون كلّهم يذوبون مثله حين تعلن لهم عن الفوكانيز فقد كان صوتها مصوغا من عذوبة خالصة تصدح به: من عزّ..
ما إن ذكر صوت نهلة حتى كان واقفا على باب المنزل المقابل لشرفته، ينفتح الباب فيبدو طيف نهلة أبيض بعينيها الداكنتين الواسعتين، تقتربان منه تلاحقان أنفاسه،
تعبث أصابعها بشعره ثم تستدير تسند ظهرها إلى صدره ويسند ظهره إلى برودة الهواء تلتقط يداها يديه وتمدانها على جانبيها إلى أقصى مدى يبدوان معا كجناحي طائرة.
عند ذكر الطائرة صمّت أذنيه أصوات قصف حطمت سقف مبنى المعهد الموسيقي فوق رؤوسهم
قبل لحظات من خروج نهلة.
- هل خرجت؟! هل كانت قريبة؟! 
مؤكد أنها خرجت قبل القصف، لا بد أن تكون قد خرجت حتى وإن لم تظهر بعد ذلك. 
هربت المقامات، بقي الرصد ينساب من شرفته الوحيدة. 
فلربما كان مثله ناجيًا وحيدا. 
 تتوالى النغمات: دو صول مي فا.
وصوت نهلة الذي لا يخطئه: من عز النوم بتسرقني. 
ينهار الجدار المسودّ بين الشرفتين. 
فتبدو الشرفة بعيدة جسده اللائب يتحول إلى قلب كبير ينبض يشهق، ثم يهمد على فراشه المبلل بموجة ليلة أخرى من الهذيان.

تابع مواقعنا