التراب والطين.. قصة قصيرة لإبراهيم معوض
الجو حار، وألم الحرارة يسري في أوصالي وكأنني مقبل على غليان، الدم في عروقي أوشك أن يفور، العرق كاد أن يلهب وجهي، العطش يصل إلى كبدي بسرعة وصول الضوء الخاطف، فتجف الشفاه وتتشقق.
يخرج اللسان لاهثا باحثا عن رطوبة في الجو فلا يجد فيعود خائبا، وعلى مرمى البصر أبصر سبيل الماء أمام ورشة النجارة على قمه الشارع، الذى أشعر إنه أصبح أطول من أعمار البشر، فأسرع بالخطى وأزيد، وكلما اقتربت منه أرى قطرات الماء تتندى فوق الفخار البارد، أشعر أنه يبتعد عني وكأنه يتحرك في مخيلتي، فأعود أسرع الخطى وأزيد، وبعدما اقتربت لدرجة توحي بقرب تحقيق الأمل المنشود، معركة كبيرة قد نشبت.
والكل يجرى ويهرول ويتفرج ولا أحد يتقدم للفصل في الشجار؛ رجل ضخم عملاق، ورجل دقيق متهالك قتال غير متكافئ، أستمر لحظات قليلة نتج عنه دماء تسيل من الفم والأنف، وتقطيع في الملابس، وفي الوقت المناسب أرسل الله المنقذ كي يخلص الرجل قبل أن يحدث كسر في العظام، دفع المخلص العملاق دفعا خفيفا أجلسه على كرسيه أمام باب ورشة النجارة، وأمر الضعيف بالانصراف، فلملم بقاياه وأخرج منديلًا يقطع به خيط الدم النازف من أنفه، ويعود يدسه في جيب سترته التي تمزقت أكمامها، وظل يبحث عن بقايا نظارته الطبية فلم يجد منها إلا نصفًا فالتقطه ودسه في جيب بنطاله وانصرف..
- فيه إيه يا راجل خليك حليم.
- والله حليم أوى يا صاحبي بس هو راجل مستفز.
- إيه اللي حصل بس، دا أنت عجنت الراجل.
- انا قاعد قدام ورشتي لا بيا ولا عليا، يبص لى بألاطه ويقولي نزل رجلك قال إيه حاطط رجلي في وش معاليه، قلت له امشى من هنا، متخلنيش اتجنن عليك، متشربش من الميه بتاعتى، يقول دي مش بتاعتك دا سبيل ملك للجميع، وهيعملى فيها من بتوع الأتحاد الاشتراكي وأديك شفت الباقي، أنا غلطان؟؟
- دا راجل سخيف أوي يلا معلش يا معلم.
وفى هذه الأثناء، امتدت يدي في بطئ التقط كوز الماء وأبلل جفاف ريقي، وأندفع خلف الرجل الذى مازال يحني رأسه إلى الأرض وكأنما يريد أن يتوارى بوجهه عن الناس قدر المستطاع، فما حدث لا يمكن أن يمحى من ذاكرته مهما اختفى حتى وإن انصهر وذاب وتبدد بعيدًا، فما زال يرى عيون الشفقة تتابعه، وظللت أتابعه بناطري حتى غاب خارج حدود رؤيتي..