نجمٌ يتيمٌ في سماء سوداء.. قصة قصيرة لناصر خليل
أفتح عيني على سقف عال رمادي كالح، يتدلى منه مصباح أصفر، يجود بأخر ما لديه من ضوء واهن، يداي فوق رأسي معلقتان ومربوطتان في قائم سرير حديدي بحبل خشن، قدماي مربوطتان عند الطرف الآخر منه في القائم الآخر. هذه ليست حجرتي وهذا ليس سريري.
أجول ببصري حولي... إنها حجرة كبيرة أكبر من حجرتي بمرات، ما تلك الآسرة المصطفة على يميني ويساري، هل نجحوا وأخذوني إلى عالمهم، أم أنني عالق في شرك كابوس شتوي طويل. تُطل من فوق الآسرة عيون - لم أرها من قبل - لأجساد ممددة تحدق فيّ ببلاهة، مغلقة أفواههم أو أنني لا أسمع أصواتهم. ليست هذه عيونهم ولا تلك أجسادهم فأنا أعرفهم جيدا طال الأمر ولم يتغير المشهد أو ينتهي ويحل غيره، إنه ولا شك واقع أليم وليس كابوسا...
- ماذا فعلت هذه المرة لأستحق أن تُلقي بي هنا يا أبي؟!!
يبدو أنني تماديت في أفعالي كثيرا هذه المرة حتى يجيئوا بي إلى هذا المكان الكئيب، أما آن الأوان يا أبي لتعرف أنه لا حيلة لي حين يبدأ الأمر وتأتيني تلك المخلوقات الشفافة الناصعة البياض المتلألئة، وجوههم من نور، ابتسامات رضا تعلوها، يتحلقون حولي في هدوء، يرمقونني بحنان، يحسون بكل ما أشعر به دون أن أتكلم. كل مرة يبدؤون في حكي قصص جميلة، يطوفون بي في عوالمهم السحرية اللامتناهية، يبقون معي لساعات ثم ينصرفون. أنا لم اخترهم أو أدعوهم لزيارتي، لكنهم هم من اختاروني -أخبروني بذلك - كان من الممكن أن يختاروك يا أبي أو أي أحد آخر، بعد زيارتهم ينطلق لساني من عقاله،
أبوح بكل ما سمعته وحفظته منهم، لا أتوقف عن الحكي حتى أنهي كل ما قالوه، إن لم أجد أحدا، أحكي للأشجار، للطيور، للفراشات في الحقول، للشوارع، لسريري، لجدران محبسي، لكنني لا أكف أبدًا...
كنت صغيرا عندما بدأ هذا الأمر، وصغيرا أيضا عندما تلقيت أول عقاب لي وكم كان قاسيًا... جاء أبي برجل ضخم، ذو لحية سوداء مبعثرة فوق ذقنه، بدا لي كمارد هارب من قاع جهنم، شزر إليّ، أخذني هو وأبي لأقصى بقعة في ساحة دارنا بعيدا عن حجرات البيت، أرغمني هذا الغريب على الجلوس أمامه والبقاء ساكنًا ثم بدأ في قراءة آيات من القرآن، كان صوته جميلا ثم بدأ يتشنج واختنق صوته في حلقه، فجأة أخرج" سير غسالة "قديم من "سيالته "وشرع في ضربي بكل قوته، الكلمات لا تنقطع من فمه، أنهال على جسدي الغض، تقرفصت وصرخت:
- آآآآآآه... آآآآآآه... آآآآآآه...!!!
لم يتوقف رغم صراخي العالي، لم يلين أو يظهر رحمة وشفقة، استمر في الضرب.
- أمي...أمي...أين أنتِ!!!
تحرك أبي من مكانه، لعله أراد أن يدفع عني أو يمنعه من إكمال ما بدأه لكن كلمات الرجل ألزمته مكانه:
- إياك أن تتدخل... يجب أن أُخْرج الجني من جسده!!!
لو رأتني أمي لصرخت ولمنعتهم من فعل ذلك بي. لم أفهم تلك القسوة معي فأنا لم أفعل شيئا يؤذيهم، ما ضرهم في أنني أحكي وأقص ما يخبرونني به دون زيادة أو نقصان، ترك هذا ندوبا في جسدي وجروحا غائرة في روحي، هم لم يتوقفوا عن زيارتي، حكيت لهم كل شيء... قلت وأنا أنهنه "ضربوني من أجلكم، قطعوا من لحمي "، بدأ النور تخالطه ظلمة مربده، والرضا اختفى من وجوههم وصار سخطا وغضبا، وحيرة سيطرت عليهم ما ذنب من يحكي ويتكلم. بعد أن طيبوا خاطري بدأوا في حكي قصصا جديدة، أخذوني إلى عوالمهم، أنسوني أوجاعي وآلامي.
أتلفت حولي:
- أين أنا...ما هذا المكان...ولما أنا هنا؟!!!
غاب وجه أمي الجميل الهادئ وسط هذه الوجوه الغريبة الكئيبة...أحقًا تماديت هذه المرة، هل هم حقا داخل رأسي. أرفع جذعي لأعلى، تدرك يدي المكبلة رأسي، عند ملامسة أصابعي لها لا أجد شعرة واحدة فيها.
– حتى شعري لم يسلم منكم!!!
تغوص أصبعي في فجوة غائرة في منتصف رأسي، أذكر قصة تلك الفجوة... لا أدري لماذا قيدني رجلان قويان بشدة، جاء أحدهما بمسمار كبير ذو رأس مفلطح يتوهج احمرارا، حين قربه من رأسي قال لأبي الواقف بجوارهما كصخرة جامدة:
- الكي بالنار سيخرج العلة من رأسه الصغير...سيكف عن الهذيان!!!
بمنتهى القسوة غرسه في لحم رأسي، صرخت، يومها شممت رائحة احتراق لحمي وغبت عن الدنيا لأيام.
عندما علموا بما حدث لي في زيارتهم التالية، ارتاعوا، حزنوا، بكوا بكاءً شديدا من أجلي، حيارى أمام تكرار تلك القسوة غير المبررة معي، حكوا ما شاء لهم...وأنا لم أكف عن حكي ما قالوه لي بعد ذلك. البرد يغزو جسدي الواهن المكشوف شبه عاري فوق سريري، لم تعرف الرحمة قلب أحدهم فيرمي فوقي غطاءً أو حتى بطانية مهترئة، ملاكي الحارس أمي ليست هنا لتتفقدني وتسحب الغطاء فوق جسدي كما تفعل في ليالي الشتاء القارص.
الوقت لا يمر والليل لا ينتهي وليس هناك أحد يقول لي ماذا يحدث أنظر حولي، رغما عني أضحك...
أتذكر تلك الذكرى... أنا واقف هذه المرة أمام رجل في جلبابه الأسود، لحيته بيضاء قطنية، يتدلى على صدره صليب ذهبي كبير، بالكاد يحمله، يتمتم بكلمات لا أفهمها، تشاغلت عنه بصورة وراءه لفارس حول رأسه هالة بيضاء، في كامل هيئته فوق فرسه القوي الجامح الرافع قوائمه الأمامية، يرفع الفارس رمحه الطويل، يغرسه بقوة في صدر تنين أسود شرير مذعور، يحمل الرجل قطعة خبز في يمينه، تفل فيها، بحركة خاطفة فتح فمي عنوة، ألقاها فيه ثم قال بوضوح:
- لك البركة...ولربنا المجد دائمًا...
بعدها حين عدت لحجرتي التي بناها والدي لي في أخر بقعة من ساحة دارنا وحبسني فيها بعد ذلك ليل نهار، وجدتهم في انتظاري، قلت لهم لقد كان الأمر سهلا هذه المرة لولا تلك الحركة المفاجئة للقس حين فتح فمي وأرغمني على لوك اللقمة، كنت أريد أن أتقيأ كل ما في بطني لكنه أغلق فمي بإحكام.. ضحكوا كثيرا هذه المرة ثم بدئوا في الحكي...أنستني حكاياتهم كل شيء.
هذا المكان لا يشبه حجرتي؛ فحجرتي مبنية بالطوب اللبن، مسقوفة بجذوع وجرائد النخيل، لا نوافذ أو كوات، بجوار حظيرة المواشي ورائحتها التي لا تطاق، ليس بها سوى سرير خشبي متهالك " كيف سمحت أمي لأبي أن يحبسني فيه ويغلق الباب من الخارج؟!! “، لكنها مثلي مغلوبة على أمرها فهي لا تستطيع أن تعارض أبي في أفعاله أو تعصي أوامره. حولي رفقائي الجُدد على آسرتهم مازالوا يقظين، يحدقون في ذهول لكنهم لا يجرئون على الكلام...
أتذكر آخر يوم قبل أن يأتوا بي إلى هنا...
مع تباشير صباح جديد، حطمتُ الباب الخشبي، تحررتُ من كل شيء يربطني بهذا العالم حتى ملابسي كلها تركتها لهم فوق السرير، خرجت من حجرتي، ثم اجتزت ساحة الدار دون أن يراني أحد، منحت جسدي العاري لشارعنا الطويل، تركت شمس النهار تحممني في هدوء، تغسل أدران ليال طويلة، تطهرني من أفعالهم، أحكي لكل من أقابله، فأنا مشوق لأن أحكي لهم ما حفظته من القصص والحكايات الجديدة لكنهم يفرون من أمامي، يتوارون، إنهم غير مصدقي مثل أبي، أو أن حكاياتي لم تعجبهم، النسوة كن يدارين وجهوهن بأيديهن، يتغامزن، يضحكن بصوت مكتوم، أتساءل ما العيب في حكايتي، كن يصرخن:
- حرام عليهم... إزاي يسبوه كده...عيب!!!
أُبدل في كلمات حكاياتي، أذكر كل تفصيله علموني إياها، أغير نبرة صوتي، الكل كان خائفا مني. أبي جاء مهرولا في الشارع وكاد أن يتعثر ويسقط على وجهه، اقترب مني، ألتقط أنفاسه اللاهثة، ظننته أخيرا سيستمع إليّ أو قَبِل بما أفعل، سيتركني أفعل ما أريد لكنه نظر بأسى في عيني، فرد بطانية سوداء كانت في يده، لفني بها بسرعة، احتضنني لأول مرة في حياته بقوة، دموعه بدأت في الانهمار، كلماته متسارعة: -
- حرام عليك...فضحتنا في البلد...!!!
هذه أخر كلمات سمعتها منه، لم أره من ساعتها، لم أر واحدا من عائلتي...
أنا هنا وحدي فوق سريري الساكن صحراء الصمت، رغم تلك الوجوه الكثيرة حولي لكن أصحابها شاردون فوق أسرتهم، أتراهم مثلي لم يقدروا على كتمان ما يعرفون وباحوا به لمن حولهم، هل يعرفون الكائنات النورانية، هل تعذبوا كثيرا وقاسوا مثلما قاسيت، المؤكد أنهم مثلي مختلفون وهذا ما جاء بهم إلى هنا.
المخلوقات الشفافة تعود من جديد، يتحلقون حول سريري، يهشون في وجهي، يطمئنوني أنني لست وحدي، يبددون مخاوفي السوداء من صدري، يطاردون عنكبوت النسيان الذي ينسج خيوطه داخل عقلي لاصطياد الحكايات والتهامها في جوفه، تنقشع السماء السوداء وتحل مكانها سماء بيضاء متلألئة بها أقمار منيرة، تتبدد وحشتي وإحساسي بأنني نجم يتيم وسط هذا الكم الهائل من السواد في السماء، يشرعون في سرد حكاياتهم وأنا أنصت لهم في خشوع.