عامٌ جديد.. التزامٌ مديد
يقول داود النبي: “علّمنا يارب أن نحصى أيامنا فَتبلُغَ الحكمة قلوبنا” (مزمور 12:89). تمر الساعات والأيام والأسابيع والشهور ونختم عاماً ثم نبدأ آخراً؛ ولكن هل قمنا بوقفةٍ مع الذات لنفحص كيف مر العام وكيف قضيناه؟ هل استطعنا استثماره فيما هو صالح للبنيان؟ اشتهرت بلاد الصين بزراعة الأرز والاعتماد عليه واستهلاكه، لأنه المادة الغذائية الأولى عندهم؛ كالخبز بالنسبة لنا، وعندما يريد أي شخص أن يستفسر عن صحة صديق له، لا يسأله: “كيف حالك؟” بل يقول له: “هل أكلت أُرْزَكَ؟” وذات يوم سأل أحد الغرباء شاباً صينياً: “لماذا خلقنا الله؟” أجاب: “حتى نأكل الأرز!”.
هذا هو حال الكثيرين في عصرنا، ليس لهم هدف في الحياة سوى الأكل والشرب والملبس، ويبذلون كل جهدهم ويحصرون همّهم في توفيرها والحصول عليها. لم يفهموا أن غاية وجودنا هي أن نسعى دائماً لنعرف الله ونحبّه ونخدمه من خلال الآخرين، لنسعد به إلى الأبد؛ ولن نتوصل إلى هذا إلا إذا وضعنا نُصب أعيننا كل يوم، أن الحياة تمر سريعاً والأيام والسنون تهرب من بين أيدينا. إذاً… يجب أن نعي جيداً أن كل لحظة في حياتنا هي فرصة جديدة يجب أن نستغلّها من أجل الخير، وأن نحتفل بالزمن الذي منحنا إياه الله، وأن نكون حاضرين ومستعدّين، حتى لا نخسر الضيف العزيز أي الوقت، لأنه دقيق وملتزم وعلى عُجالةٍ ولا يستطيع الانتظار، وكم ستكون الخسارة فادحة إذا كنّا مشتتين أو غير مستعدين.
أخطر مجازفة نقع فيها طوال الأيام هي أن نكون غائبين في حين أن الزمن حاضر. فالضيف موجود في المنزل ولكننا نحن خارجاً، قد أتى في الموعد منضبطاً، ولكننا لسنا على دراية بذلك، ونستمر في غيابنا عن أنفسنا وذاتنا. إن الوقت مستعدٌ دائماً، ولكن للأسف نحن غير مبالين به وبوجوده. نردد كثيراً هذه العبارات: “لقد أضعنا الوقت”، “بددنا الوقت”، “فقدنا الوقت”، وجميعها تعبّر عن حقيقةٍ واحدة وهي أننا غائبون ولكن الوقت حاضر. فالزمن لا يحمل لنا أشياءً، ولكنه يقدّم لنا ذاته، فكل لحظة هي حضور الله في حياتنا، لذلك يجب أن نحتفل بهذا الحضور، ونستقبل هذه اللحظات بفرحٍ ووعي لأنها تُعبّر عن وجود الله معنا، وتحمل لنا الرجاء. فبالرغم من أن الإنسان استطاع أن يغزو الفضاء ويسيطر عليه لأنه هبة من الله له، إلا أنه لم ولن يستطيع أن يسيطر على الزمن والوقت إطلاقاً. ومهما ابتكر أحدث الاختراعات والتكنولوجيا، لن يستطيع أن يخترع آلةً تُعيد الزمن الذي فُقد، أو أن يسترد يوماً انقضى. فالزمن خارج استطاعته، لذلك يجب أن نعي جيداً بأن الزمن هو عطية لنا من الله، يمر من بين أيدينا ولا نستطيع الإمساك به، وإذا حاولنا أن نوقفه، سيفلت منّا، كل هذا يجعلنا نُقدّر قيمة الزمن ونتحلّى بفضيلة التواضع التي تعرّفنا مقدار ذاتنا.
مما لا شك فيه أن الله يمنحنا كل يومٍ ما نحن بحاجةٍ إليه، لأن كل فجرٍ يمر علينا بأنواره هو نعمة وهبة من الله لاستغلاله في كل ما هو صالح وخيّر ومفيد. إذاً الزمن هو ميلاد جديد لعزيمتنا، ومغامرة فريدة تمنحنا خبرةً جديدة وفرصة نادرة لنُضجنا. فالاستفادة بالوقت لا تعني شَحْنَه بأشياءٍ كثيرة دون إتقانها، ولكن أن نشعر بقيمة الزمن ونستطيع أن نعوّض ما فقدناه في الأعوام الماضية. لذلك نطلب من الله الأمل والرجاء والصبر لاستغلال قيمة الوقت والتعلّم من الماضي وتجنّب كل ما هو ضار وسيء. فأصحاب النفوس النبيلة والعظيمة ليس لديهم وقتاً يهدرونه، ولكنهم يشعرون بهذه المسئولية الكبيرة أمام الله والناس جميعاً. ولا يكفي أن نعيش حياتنا وهدفنا الوحيد هو الابتعاد عن الشر فقط، ولكن يجب أن نصنع الخير ونقوم برسالتنا تجاه الآخرين. فنحن على الأرض للعمل والجد وتحمّل المسئولية، بحيث يكون الغد أفضل مما نحن عليه اليوم، والعام الجديد مُشرقاً عن الأعوام السابقة، لأنه لا يعتمد على النتيجة الورقية أو الموجودة في الهاتف، ولكن في داخلنا ونستطيع أن نجعل السنة القادمة مثمرة وخيّرة أو العكس، حسب أعمالنا وتصرفاتنا وعلاقتنا بالآخرين. ونختم بنصيحة جلاد ستون للشباب: “صدّقوني عندما أؤكد لكم أن حُسن استعمال الوقت سوف يعود عليكم فيما بعد بفوائدٍ ما كنتم تحلمون بها”. إذاً نطلب من الله أن يمنحنا الحكمة والبصيرة للاستفادة من العام الجديد، وكل عام وكلّنا بخيرٍ وسلامٍ وبركةٍ وصحة.