الغرامشية الجديدة للمجتمع المدني
مرت مصر خلال الآونة الأخيرة بحالة من الجدل المجتمعي حول ماهية المجتمع المدني، وفيما كان عدد من المؤسسات يحاول بجد أن يقدم أفضل ما لديه للمجتمع، كان الكثير يتساءلون عن أسباب الإصرار على العمل في ظل رؤية ضبابية للعمل المدني وصدور اللائحة التنفيذية للقانون رقم 149 لسنة 2019، لذلك كان علينا أن نعمل لنقدم ورقة مختصرة عن الدور الحقيقي للمجتمع المدني، إذ ربما تغافل البعض عن هذا الدور-عن عمد أو دون قصد- فلعل هذه الورقة تبث النور مرة أخرى في المجتمع المدني وتمد يد العون لمؤسساته، وتُبرز الدور الحقيقي الفعال للمجتمع المدني علي مستوي العالم بشكل عام وعلى مستوي مصر بشكل أكثر خصوصية وإيضاحًا للكثير من الأقاويل، ولنتكمن من خلق جيل واعٍ بأهمية العمل العام وتأثير هذا الفهم على تغيير الخريطة التنموية وتطوير المشروعات المجتمعية.
ارتبط مفهوم المجتمع المدني منذ نشأته وخلال فترة تطوره على الكثير من التغييرات اللفظية، ولكنه كان متمسكًا بمفردات الكلمة حيث ارتبط بتاريخ نضال الشعوب من أجل الحرية والمساواة وكذلك حاجة الإنسان إلي الأمن، والأمان والاستقرار، وحيث إن تاريخ المجتمع المدني بدأ منذ القرن الثامن عشر تقريبًا، حيث كانت الحاجة إلى علاقة جديدة بين الشعوب والحكومات، كما يُرجع بعض الباحثين ظهور معالم أولى لمفهوم المجتمع المدني في الفلسفة اليونانية القديمة، بينما يقول عدد من الباحثين إن أرسطو أول من أشار إلى المجتمع المدني باعتباره مجموعة سياسية تخضع لقوانين الدولة ولكن أرسطو لم يميز بين الدولة والمجتمع المدني، فالدولة عند أرسطو والفلسفة اليونانية عمومًا يقصد بها مجتمع مدني يمثل مجتمعًا سياسيًا أعضاؤه هم مواطنين يعترفون بقوانين الدولة ويتصرفون وفقًا لها، بينما قام أرسطو بدعوة تكوين مجتمع سياسي تسود فيه حرية التعبير عن الرأي ويقوم بتشريع القوانين لتحقيق العدالة والمساواة، ولكن كانت هذه المشاركة قاصرة على النخبة المجتمعية ويُحرم منها العمال والأجانب والنساء.
بينما نحن نتحدث عن أرسطو والحقبة اليونانية إلا أن الرومان استعملوا هذا المصطلح ولكن ليس بالطبع في مفهومه الحالي ولكن استخدامهم كان لتمييز العِرق الروماني عن البرابرة، ولكن لدينا إجماع من عدد من الباحثين حول ارتباط ظهور المجتمع المدني بتطور الفكر السياسي الغربي الحديث منذ عصر النهضة، حيث إن هذا العصر تميز بظهور مجموعة من المفكرين الذين نادوا بمجموعة من المبادئ التحررية في وجة الكنيسة ثم الإقطاع، الذي من شأنه تحول للمطالبة بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة وسيادة الشعب– المفهوم الحالي لدينا- ولكن من أهم نتائج هذه الحقبة أن ظهر مفهوم جديد ونظرية جديدة من شأنها حماية حقوق الأقليات والحفاظ علي سيادة الشعب، وهي "نظرية العقد الاجتماعي" لتعبر هذه الكلمات الصغيرة عن أهميه التخلص من تأثير العصور الوسطي والتخلي عن سيطرة الدين المطلقه من خلال الكنيسة، والتخلي عن النظام القديم والدعوة إلى نظام جديد يقر بسيادة الشعب والسيادة القومية وحقوق الإنسان التي فجرت بعد ذلك الثورة البرجوازية الإنجليزية ومن ثم الثورة الفرنسية.
ومع بداية القرن التاسع عشر دخلت أوروبا عصر التنوير، حيث تم التخلص من السلطة الدينية التي أغرقت أوروبا، ومن بعدها انتقلت إلي الثورة الصناعية حيث انقسمت الشعوب إلي عمال وأصحاب مصانع– بناءً علي رأس المال– مما دفع كل مجموعة لديها رأس المال أن تقوم بتأسيس روابط واتحادات للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الخاصة والمشتركة، مما أدي إلى ظهور مصطلح جديد هو "حق الملكية الخاصة"، ولكن هذه التحولات الجذرية أثارت دهشة عدد من المفكرين وأولهم فريدريك هيغل، حيث أنكر فريدريك فكرة الانسجام الذي تفرضه نظرية العقد الاجتماعي، حيث إن الدولة دائمًا بمؤسساتها هي الأقوى ولن يتمكن المجتمع المدني من إقامة وتحقيق العدالة والحرية من تلقاء نفسه، حيث تكون الدولة هي الإطار الأقوى، "حيث المجتمع المدني في غياب الدولة تسوده الفرقة والنزاع والصراع لتجسيد مصالح خاصه للأفراد ولذلك لا يتحقق له الاستقرار والوحدة إلا في وجود الدولة"، ولكن هيغل كان يؤمن أن المجتمع المدني هو الوسيط بين الشعب والدولة، كانت نظرية هيغل أن المجتمع المدني هو وسيط بين الشعب والدولة، وأن يكون هو مكان التبادل والإنتاج الفكري الخاص الذي لا يمكن أن يولد أو يتطور إلا من خلال صفتها المجسدة للمصالح العامة، ومن هنا كانت علاقة المجتمع المدني والدولة علاقة تكامل وتعارض في اللحظة نفسها.
كما مر تطور المجتمع المدني علي مراحل أخري متعددة منها المرحلة الماركسية التي انطلقت من كارل ماركس حيث اتخذ من تفكير هيغل حول دور المجتمع المدني وعلاقته بالدولة وزادت حدة الصراعات الطبقية حين سيطر أصحاب النفوذ على المجتمع المدني، حيث تعلم ماركس المادية وهو ما غفل عنه مثالية هيغل، حيث أكد هيغل على أن الدولة والمجتمع المدني بينهما تكامل، بينما اصطدم ماركس بالدولة وقام بنقدها حيث قال ماركس إن "تحليل التركيب البنيوي للدولة يُلتمس في الاقتصاد السياسي" ما يثبت نظريته هو أن حسب التكوين الطبقي في المجتمع وعلاقات القوة السائدة بين الطبقات تتحدد علاقته بالدولة، فإذا تمكنت طبقة معينه من فرض إرادتها على سائر الطبقات فإن الدولة تصبح تابعة للطبقة المسيطرة اقتصاديًا والتي خرجت من المجتمع المدني أما إذا تعذر على أي طبقة أن تستحوذ على هذا القدر من السيطرة فإن الدولة تظل في مواجهة المجتمع المدني بل وتُنصب نفسها قوة فوق قوة المجتمع المدني.
ثم مر المجتمع المدني وتطوره إلى المرحلة الغرامشية نسبًا إلى المفكر الإيطالي -الماركسي الجديد- أنطونيو غرامشي الذي حاول حل مشكلة الطبقية وسيطرتها على المجتمع المدني، حيث ظهر تقسيم جديد للمجتمع المدني يضم منظمات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات ووسائل الإعلام ودور العبادة والمدارس..... إلى آخره، حيث نظهر هيمنة جديدة، وهي الأيديولوجية والثقافية، وبنهاية الحرب العالمية الثانية 1945 تواري دور المجتمع المدني– أي خلال مرحلة الحرب الباردة– وصولًا إلى انهيار المعسكر الشيوعي 1989 فقد شاهد بعد هذا التاريخ ما يُسمي "صحوة المجتمع المدني" وهي الفترة التي اطلق عليها صاموئيل هنتنجون بالموجة الثالثة للديمقراطية، حيث نجح المجتمع المدني في نشر الديمقراطية في العالم بداية من أوروبا من البرتغال عام 1974 وانتقلت من جنوب أوروبا إلي أمريكا اللاتينية، ثم جنوب آسيا إلى أن وصلت لأوروبا الشرقية حيث قامت منظمات المجتمع المدني بتدعيم الديمقراطية وجعلها غير قابلة للارتداد.
نستطيع القول إن المجتمع المدني بتأثيره خلال فترة نموه لم يتطرق قط إلى الهيمنة الاقتصادية فيه إلا وباءت محاولاته بالفشل، حيث كانت الصراعات قائمة بين القوي في النفوذ وصاحب المال وبين القوي في التأثير والوصول لتحقيق نتائج علي أرض الواقع، حيث النتائج التي آلت إليها مراحل نمو وتطور المجتمع المدني أكدت أن المجتمع المدني الحقيقي قادر على العمل والحشد والتطوير والتنمية والتمكين وأن آلية مساعدة -ليست هي المتفردة- لتحقيق هذه النقاط هي آلية الحصول على تمويل لتنفيذ الأنشطة والمبادرات والتدريبات التي من شأنها دعم دور المجتمع المدني وإبراز تأثيره علي المدي البعيد، لذلك تحاول عدد من منظمات المجتمع المدني الآن أن تقدم أفضل ما لديها -بالطبع تبحث عن تمويل للأنشطة- ولكن اللهث وراء الأمور الاقتصادية يؤثر بالسلب على حركة المجتمع المدني، لأنه قائم علي أفراد يريدون تحقيق حلقة الوصل بين الشعوب والحكومات، وهذه الحلقة يمكن أن تعمل في ظل ظروف اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية مختلفة.
نحن في حاجة حقيقة للتكاتف كمنظمات مجتمع مدني مع الدولة لتكون قادرة على التطوير والتمكين والتنمية الثقافية والفنية، مع مختلف قطاعات المجتمع المدني لنقدم صورة حقيقية للمجتمع المدني الفاعل.