ميت يتنفس.. قصة قصيرة لإبراهيم معوض تعرف عليها
ضباب كثيف متراكم، لا ترى فيه إلا تحت أقدامك؛ وكأنه السماء بنورها الوهاج، نور كثيف يحجب الرؤية، أم أنها قطرات ماء تتجمع فوق خصلات الشعر لتحيلها كما لو اشتعلت شيبًا، جو ملئ بالقطرات والبرد يسري في مفاصل الكون، تدب الخيول التي تجر العربات الكارو لا تراها وإنما تسمع طرقات أقدامها على الطريق، وكذلك العربات تمرق عن يمينك ويسارك لا تسمع منها الا الصوت الآلي لأنها تشق الطريق الملتوي بقوه الالهام دون أن يرى سائقها بلا شك.
يتحرك الكون نحو اللا وجود؛ فهذي يدي لا آراها الا أنني أشعر بها حين أقربها من وجهي لأزيل الثلج عنه فأثق في وجودها بلا رؤية، تدب الحيوانات بأصوات ترعب قلوب الصغار كثير من النباح قليل من المواء، وقطع الثلج الصغيرة تلف أعواد الفول، والعيون تكابد وتبرق كي تكشف منعطفات الطريق.. يقف عسكري المرور داخل حانوته الخشبي الذى يشبه التابوت، ينام واقفًا فيه كالحصان واضعًا يداه متشابكان تحت رأسه، وفى الأفق يمرق طفل صغير يشق الضباب الكثيف بجسده الحاد.
وجه يلتف بالثلج يتحرك كنملة وسط الجيوش، يضع حقيبته فوق ظهره بأحزمة على كتفيه، ويرتدى قفازًا جلديًا كي لا تتجمد أنامله من البرد فلا تقوى على إمساك القلم، ومازال العسكري يضع رأسه داخل التابوت وبالطبع معها جسد كبير وكأنه ألف جسد أنهكه السهر، يفتح عينيه على مفرق الطريق ليرى العربات المخالفة للقوانين تسير بفوانيس محطمة؛ ولكنه ما يلبث أن يغمض عينيه مره أخرى حتى يشب في أعماقه صوت: أنظر وأكتب الأرقام المخالفة ؛ ولكن كيف يرى هذه الأرقام الصغيرة من خلف هذه النظارة الطبية في هذا الضباب؟ فيريح الصوت داخله بصوت آخر: نم ولا تقلق فإن كل شيء تمام، ويضغط على عينيه لتهبط النظارة رويدًا على مؤخرة أنفه فيخلعها ويدسها في جيب سترتة، فحينما يسمع بأذنيه التي لا يستطيع لهما غلقًا صوت صراخ في الأفق ويدوى داخل التابوت.
يخرج نظارته مره أخرى يرتديها وبالطبع لا يرى شيئًا كعادته، وماهي الا لحظة وصمت الصراخ وعاد الهدوء من جديد؛ فعاد فخلعها ولكن لم يهنأ طويلًا حتى سمع طرقات أقدام تدنو من الحانوت، فضغط على عيونه ليوقظ حاسة الابصار فيها حتى رأى الضابط بدوريته الراكبة فوضع يده على جبهته، وطرق الأرض في حركه آلية بتعظيم سلام، وعيناه زائغتان على الدبابير الكثيفة التي تغطى أكتاف الرجل وقال كلمته التي يرددها يوميًا: تمام يا أفندم وتلقاها الآخر على أذنيه المختبئتان تحت خصلات شعره المهندم وكأنما إعتاد عليها هو الآخر، أومأ برأسه وركب سيارته التي تشق الضباب بصفير وأضواء.
وأخيرًا أخذت الشمس مكانها المعتاد في كبد السماء متكورة بيضاء تشبه القمر، ولكن ما لبثت أن أخذت تنمو خلف قطع الضباب لتفتت ظلامه وتنشر أشعتها على جبين الأرض؛ حتى يرى كل واحد منا نفسه.
ويستيقظ النائمون فأجري معهم للالتفاف في حلقة؛ إنه الطفل المارق في الضباب قبلًا يغرق في دمائه.. دماء حقيقية وليست من أساطير الضباب.. دماء بشرية..
ومن هنا رأى العسكري بعد خروجه من تابوته الخشبي أن كل فوانيس السيارات محطمة.. كيف يستطيع النكران وتلك الأنوار تكذبه وضوء الشمس يفقأ عينه..