إصلاح التعليم المصريّ
كانت الثانوية العامة ولا تزال الهمَّ الأكبر للأسر المصريَّة، ولم تنجح أيُّ محاولة أجريت من قبل في تفكيك القلق والتوتر الذي تمرُّ به كلُّ أسرة لها ابن أو ابنة في عنق الزجاجة التي هي الثانوية العامة، وهذا القلق والتوتر الذي يصيب الأسر وكأنَّها في حالة حرب لم يخفف منه هذا التراجع الكبير في نظرة المجتمع لخريجي ما يسمى بكليَّات القمة، فالقيمة ليست في اللقب الذي يحصل عليه خريج كليَّة من كليَّات الطب أو الهندسة أو السياسة والاقتصاد أو الإعلام....، بل هي لمن أثبت جدارته، وأظهر نبوغا في الممارسة العمليَّة طبيبًا أو مهندسًا أو إعلاميًّا... .
وكثير ممن تخرجوا في كليَّات القمة لم يجدوا عملًا، ومن وجدوه لم يحققوا منه دخلًا يقوم بأسرته الصغيرة، وهذا وذاك لا ينظر إليه أحد في مجتمعه على أنَّه شخصية مرموقة، بل ربما تتلقفه الألسنة بالتحذير من التعامل معه كطبيب أو مهندس لضعف مستواه المهني، وفي ذات الوقت قد تجد شخصًا تخرج في كليته بتقدير متواضع حقق نجاحًا كبيرًا في الممارسة العمليَّة، فذاع صيته بين النَّاس، وقد تجد شخصًا لم يحقق أمنية أسرته؛ حيث لم يحصل على مجموع يؤهله لدخول الكليَّة التي كان يسعى إليها هو وأسرته، فألقى به التنسيق في كليَّة لا تمت في عرف النَّاس للقمة بصلة، ومع ذلك تفوق في الدراسة بها فأصبح أحد أعضاء هيئة تدريسها أو عضوًا من أعضاء الجهات القضائيَّة المختلفة، أو نجمًا إعلاميًّا، أو حتى عضوًا بالسلك الدبلوماسي مع أنَّه لم يدرس سياسة واقتصاد أو إعلام.
بل ربما تجد طالبًا لم يدخل كليَّة أصلًا، وإنَّما لحق بصعوبة بمعهد من المعاهد العليا أو المتوسطة، يجد من الحرج إخبار النَّاس به بعد أنَّ أصبح واحدًا من كبار رجال الأعمال، وربما لا يحصي عدد شركاته التي يمتلكها، ويسقط منه بعضها إذا عددها، ويصعب عليه معرفة عدد الملتحقين بوظيفة متواضعة في شركة من شركاته من أولئك الذي تخرجوا في كليَّات لازال النَّاس يطلقون عليها لقبا لا أساس له وهو (كليَّات القمة)، فكم من مهندس يعمل في مصنع مملوك لرجل أعمال لم يتخرج في كليَّة ولا معهد أصلًا؟ وكم من طبيب يعمل في مستشفى كبير يمتلكه رجل أعمال لا علاقة بينه وبين مهنة الطب، ومع ذلك تقف طائرته الخاصة في أقرب مطار من موقع المستشفى التي هي إحدى ممتلكاته؟ هذا الحديث الذي لا يستطيع أن يشكك فيه أحد، فما من مطالع لهذه الكلمات إلا ويعرف بعض أشخاص ممن أتحدث عنهم.
وكلامي هذا لا يعني بحال النيل أو التعرض لرجال الأعمال الذين لم يتخرجوا في كليَّات القمة، بل على العكس هو إشادة بهم؛ حيث أثبتوا جدارة في مجال وجدوا فيه أنفسهم، وناسب ميولهم ومهاراتهم؛ فانطلقوا فيه من بداية سلمه، فتقبلوا في البداية أعمالًا لا يصدق كثير من الناس الحديث عنها حين يقارنون بينها وبين ما هم عليه الآن، وبكلِّ تأكيد فإنَّ هؤلاء الذين حققوا هذا النجاح، وأصبحوا من قمم المجتمع يستحقون التقدير والاحترام ما دام وصلوا إلى ما وصلوا إليه من خلال العرق والجهد والمثابرة، وليس عبر طرق الكسب السريع غير المحترمة، كغسل الأموال أو تجارة الآثار أو النصب والاحتيال، فهؤلاء مهما كانت مكانتهم المجتمعيَّة لا يستحقون أي تقدير ولا احترام.
إنَّ هذا التشبث بثقافة كليَّات القمة وما رسّخته في مجتمعنا من توتر وقلق وحزن، وربما موت بعض الشباب بالسكتة القلبية فور سماع نتيجته، وانتحار آخرين قد آن الأوان للتخلي عنها واعتبار الثانويَّة مرحلة عادية، فهي ليست بالضرورة مصيريَّة في تحديد مستقبل أبنائنا.
ومن الجيد غرس الثقافة الصحيحة في نفوس أبنائنا التي يتعلمون من خلالها اكتشاف ميولهم وقدراتهم، والبحث عن مجال الدراسة المناسب لها، وإن كان لا يحتاج إلى مجموعه المرتفع الذي حصل عليه، وهو ما انتبه إليه بعض النَّاس حين كانوا في هذه المرحلة، وكم من مرة استغرب النَّاس دخول الأول على الجمهوريَّة كليَّة من الكليَّات التي كانت تقبل درجة النجاح لا أكثر.
إنَّ تراجع نتائج الثانوية العامة غير المسبوق هذا العام بالنسبة لي ليس بمستغرب ولا بمستنكر لذاته، فقد مررنا به في الأزهر من قبل حين بدأنا عمليَّة الإصلاح في 2013م وهو ما ترتب عليه انخفاض نسبة النجاح إلى 28% فقط، وهو أدنى بكثير من نسبة النجاح في الثانويَّة العامة لهذا العام، لكننا لم نكن قلقين بل رأيناه أمرًا طبيعيًّا، حيث كانت خطوات الإصلاح جريئة وقوية بعد دراسة مستفيضة، وكان التعامل مع النتيجة بكلِّ شفافية، ولم تحدث أي محاولة لرفع النتيجة خوفًا من رد الفعل من قبل المتربصين والمتصيدين، الذين نادوا وقتها بمحاكمتي شخصيًّا، وأذكر أنني قلت في المؤتمر الصحفي الذي أعلنت فيه النتيجة: إن انخفاض النتيجة كان متوقعًا مع هذه الإجراءات الصارمة المفاجئة، ولكننا على يقين من الارتفاع التدريجي لنسب النجاح في الأعوام المقبلة؛ حيث سيتخلى الطلاب عن ثقافة الاعتماد على الغش إلى ثقافة الاعتماد على النفس، وهو ما تحقق بالفعل بحمد الله، فقد تجاوزت هذا العام نسبة 60%، والقادم أفضل مع استمرار الأزهر في تطبيق الضوابط التي قررها بداية عمليَّة الإصلاح.
كما قلت إننا نتوقع ارتفاع نسب التحويل من التعليم الأزهري إلى التعليم العام، وهذا أيضا لا يقلقنا، فالتلميذ يحوِّل من التعليم الأزهري المصري إلى التعليم العام المصري، إلَّا أنَّ هذا لن يستمر بعد تفهم أولياء الأمور طبيعة ما قام به الأزهر، وأنَّه لصالح أبنائهم، وهو ما تحقق بالفعل، فسرعان ما عاد مؤشر التحويل إلى الأزهر ليرتفع، ونعاني الآن من مشكلة ارتفاع عدد الراغبين في التحويل إلى الأزهر الشريف.
وهذا وذاك يعني أنَّ رؤية الأزهر للإصلاح وخطته كانت موفقة، حيث جنينا الكثير من الثمار خلال هذه السنوات المعدودة بعد تطبيق خطة إصلاح التعليم الأزهري، فانخفاض النتائج بعد تطبيق خطة الإصلاح لا ينبغي أن يقلق لذاته أو يوقف أو حتى يبطئ خطوات الإصلاح، المهم أنَّ تكون خطوات الإصلاح ناتجة عن رؤيَّة ودراسة مستفيضة لواقع المشكلات، وإن كان الواقع قد شهد لنجاح تطوير التعليم الأزهري، وإن جحده كثير من النَّاس، فإننا لنترقب نتائج الإصلاح في التعليم العام خلال السنوات المقبلة، ونتمنى أن تكون كذلك لتكتمل منظومة إصلاح التعليم في مصرنا.