كيف تنبأ نجيب محفوظ ورسم مشهد اغتياله في رواياته؟
نجيب محفوظ، الأديب العالمي، والروائي المثال، كاتب القرن، وزعيم السرد العربي، مؤرخ الملاحم الشعبية، وبطل الحرافيش، والذي نمر في تلك الأيام بذكرى رحيله، والتي توافق 30 أغسطس من العام 2006، عن عمر ناهز الـ 94 عامًا، ويعد محفوظ هو الأديب العربي الأشهر عالميًا، وقد حصل على جائزة نوبل عام 1988، ليتوج مشواره العظيم بالتكريم الأرفع عالميًا.
تعرض نجيب محفوظ كثيرًا للانتقاد والعداوة من قبل التيارات المتشددة، ويرجع السبب الرئيسي في ذلك روايته أولاد حارتنا، والفهم الخاطئ لأحداثها، وقد زادت تلك العداوة حتى وصلت إلى محاولة قتله في أكتوبر عام 1994، عندما طعنه شابًا ينتمي لإحدى تلك الجماعات بسلاح أبيض في رقبته قاصدًا قتله، لكنه نجا من تلك الحادثة وعاد بعد فترة صعبة ليمارس أعماله الكتابية، لكن هل رسم نجيب محفوظ مشهد اغتياله في رواياته، وتخيل أحداثه؟.
يجيب عن هذا التساؤل الكاتب الصحفي عبد المنعم الجداوي، في مقال نشره في مجلة الهلال، ملحق بالعدد الصادر في نوفمبر عام 1994، بعنوان «نجيب محفوظ.. رأى منظر الاعتداء عليه.. وكتبه منذ سنين في ملحمة الحرافيش». تحدث فيه الكاتب في البداية عن نجيب محفوظ، وعن مكانته بين الناس، وحلل تناول محفوظ للجريمة في روايته اللص والكلاب، وشابه بين الجاني في الرواية وبين الجاني الحقيقي قائلًا «الجاني الأخير، عُبئ تعبئة أيديولوجية، لكي يعتدي ويقتل، وهو لا يعرف على وجه التحديد لماذا يغتال، ولا قيمة من يغتاله، كل ما يهمه هو إرضاء الأمير، ويكون أداة طيعة، كلاهما يريد أن يغتال لكي يحسم التوتر والقلق الذي يملئ عروقه، وكلاهما يقف تفكيره عند تنفيذ رغبته دون أن يتعداها إلى ما بعد اللحظة التي يصير فيها جانيًا، وله ضحية مجني عليه».
يسرد عبد المنعم مشهد محاولة الاغتيال، مستندًا على روايات الصحف والشهود، واقوال صديقه «هبط نجيب محفوظ من بيته ثم تقدم نحو السيارة، فأسرع صديقه يفتح له الباب الجانبي، لكي يستقر بجواره كعادته في كل يوم جمعة قبل الغروب، ودخل الكاتب الكبير وأغلق الباب، واستدار صديقه ليجلس في مقعد القيادة، وكان حول السيارة بعض المعجبين من الشباب، وكان محفوظ يصافحهم واحدًا واحدًا، وفجأة تقدم شاب يناهز العشرين، ومد نجيب محفوظ يده ليصافحه، لكن الفتى في لمح البصر أخرج مطواة طويلة، وغرسها في عنق الأديب الذي فوجئ فلم ينطق، وذهل الصديق الذي كان يدير مفتاح السيارة، فرآه يخلعها بسرعة البرق، ويغرسها مرة أخرى، كل هذا والناس في ذهول وصمت، كأنما كل شيء توقف، إلا هذا الفتى، الذي ترادع وسارع بالفرار، انبثقت الدماء الغزيرة ووضع محفوظ يده على الجرح ليمنع النزيف، وهو يردد أنا بخير أنا كويس».
زهيرة ونجيب محفوظ ومطابقة المشهدين
يقارن عبد المنعم ذلك المشهد الحقيقي الذي جرى مع نجيب محفوظ، بمشهد في ملجمة الحرافيش، مشهد قتل زهيرة على يد زوجها محمد أنور «وذات مرة غادرت جامع الحسين كالعادة، وسط مظاهرة من الشحاذين، والمجاذيب، أجلست جلال وراضي على مقعديهما، وهمت بالصعود إلى الدوكار، عندما سمعت صوتًا قريبًا يهمس:
- زهيرة.
نظرت نحو الصوت فرات محمد أنور يطالعها بوجه الموت.. انذعرت مندفعة نحو الدوكار، ولكن الرجل رفع عصًا غليظة وهوى بها بطل قوته على رأسها النبيل الجميل، فتهاوت على الأرض، صارخة، وظل يضرب الرأس بوحشية، حتى هشمه تمامًا غير مبالٍ ببكاء جلال وراضي.. لم يبق من وجه البهاء والجمال إلا عظام محطمة غارقة في بركة من الدم».
ويؤكد عبد المنعم في تعقيبه أن محفوظ لم يفاجئ بالمحاولة، بل هو عاشها ويعرف تفاصيلها قبل وقوعها «أستطيع أن أقطع أن نجيب محفوظ لم يفاجأ بما وقع، قد تكون المفاجئة في التوقيت فقط، أما الحادث، والنقل إلى المستشفى، وكل ذلك كان الكاتب الكبير يحياه في غير دهشة، كأنه شاهده من قبل، وكان الله رحيمًا به، وبالملايين الذين يحبونه، ويضرعون إلى الله أن يعيده إليهم كما كان، ليثري مشاعرهم، وأحاسيسهم بالحب، الذي تحدث عنه وهو في المستشفى بالعناية المركزة».