طالبان والمفهوم الضيق لتطبيق الشريعة
في أول ظهور له شدد زعيم طالبان الملا هبة الله أخوند زادة على تمسك الحكومة الجديدة بتطبيق الشريعة الإسلامية، والملا هبة الله هو الزعيم الديني والمرشد الإسلامي لأفغانستان، على غرار المرشد الأعلى للنظام الإيراني.
أوضح هبة الله أن تطبيق الشريعة سوف يشمل جميع شؤون الحكم والحياة في أفغانستان، وأن الحكومة ستعمل على حماية المصالح العليا للبلاد وتأمين الحدود وضمان السلام الدائم والازدهار والتنمية، وحماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات في إطار الدين الإسلامي.
وأول مخالفة للشريعة (بمنطق طالبان) حدثت في تشكيل الحكومة المؤقتة، فقد عكس هذه التشكيل عدة دلالات، منها: أن أغلب من تم اختيارهم ينتمون إلى حركة طالبان، دون مراعاة بقية الأعراق والأجناس، وعلى الرغم من أن الحكومة المشكلة هي لتصريف الأعمال، لكن طالبان لم تتحدث عن مدى زمني بما يعني امتداد الحكومة لأجل غير مسمى، وليست هذه هي المعضلة، وإنما العضلة بدت في أن طالبان قد تكرر الأخطاء نفسها التي دمرت أفغانستان قبل عشرين سنة، وكل ذلك باسم تطبيق الشريعة الإسلامية.
إذ جعلت الحركة رجال دين على رأس هذه الحكومة، بما يشير إلى عدم التمايز بين فقه الفرد وفقه الدولة، وعدم فهم دور رجل الدين ورجل السياسية، وفهم شمولية الإسلام على أنه يعني أن المسلم بنفسه يستطيع أن يكون رجل دين وفقيها ومفتيا وحاكما سياسيا ومسؤولا اقتصاديا، فالحركة لم تتجه للفصل بين كونها حركة دينية وإدارة الدولة التي تحتاج نوعًا آخر من الإدارة والوظائف السياسية والإدارية والرقابية والمهنية والقانونية، ولم يعلم أن إدارة دينية (أو جماعة دينية) نجحت في أداء وظائف سياسية وإدارية وقانونية.
تأتي إحدى أهم إشكاليات طالبان بل الحركات التي ترفع شعار الشريعة في الانحراف المتكرر في مفهوم دور الشريعة وأثرها في الأفراد والجماعات، فالإسلام وهو الدين الصالح لكل زمان ومكان، الذي جاء لهداية الناس، وتزكية أنفسهم، ونشر القيم لتكوين مجتمعات فاضلة وقوية وناهضة لم يعط الحكم كل هذا الاهتمام، فقضية الحكم من أولها إلى آخرها مقررة في الإسلام أنها من فروع الدين، ولن يتم (تديين) المجتمعات من خلالها.
طالبان وغيرها علقوا وجود الإسلام وتطبيق الإسلام ومصير الإسلام ومستقبل الإسلام على موقف الدولة ومدى التزامها بالإسلام، وأصبحت إقامة الدولة الإسلامية هي الشغل الشاغل، والهدف الأسمى، والأولوية العليا، والغاية القصوى، ومن أجله يخوضون معارك كبرى، ويجندون كل طاقاتهم وإمكاناتهم المادية والمعنوية.
تناول أحد قيادات الحركات الإسلامية (أحمد الريسوني) هذا الأمر واعترف بالخطأ التي وقعت فيه التنظيمات الإسلامية، من أنه لا يوجد في شـرع الله تعالـى نصًا صريحًا ملزمًا بإقامة الدولة، وإنما تقرر وجوب إقامة الدولة ونصب الحاكم من باب الاجتهاد والاستنباط والوسائل لا المقاصد.
فالدولة هي في الحقيقة مجموعة من الوسائل قابلة للتفكيك والتفريق أو بتعبير الأصوليين: «قابلة للتبعيض»، بحيث يتحقق بعضها دون بعض، ويكون بعضها صالحًا مشروعًا، وبعضها منحرفًا مرفوضًا، وإقامة الدولة تخضع لشروط وقوانين تاريخية واجتماعية وسياسية، لا يمكن إلغاؤها أو القفز عليها بمجرد رغبة أو قرار، ولا بمجرد تقديم جهود وتضحيات، حتى ولو كانت التضحيات مخلصة وكبيرة.
على طالبان أن تعي أن تطبيق الشريعة ليس شعارات تُقال في بيانات إعلامية، بل تطبيق الشريعة بالمفهوم السياسي والفقهي هو عدم استضافة طالبان أي جماعة أو تنظيم متطرف على أرض أفغانستان، وأن تعي أن الحكم ليس كل شيء ولا أهم شيء، وأن الدولة لا تقوم مقام الأمة، وعليها الانتقال من الدولة البدوية العشائرية إلى الدولة الحديثة، وخلع عباءة الميلشيا والجماعات والتنظيمات والحركات لتذوب في المجتمع وتبني دولة حديثة عصرية، وتراعي المقاصد العليا للإسلام وضابط المصلحة كأساس للعلاقات الدولية.
قرأت مقالًا للدكتور ناجح إبراهيم نشره في جريدة "الوطن" يجعل نجاح طالبان موقوفًا على ترك فقه البداوة والصحراء والجفاء والتشدد والتزمت والتنظيمات والجماعات الضيقة إلى الدولة الحديثة والتحضر والتسامح والعفو والمحبة والإخاء والتبشير وقبول الآخر والبحث العلمي والحريات والمشتركات الإنسانية وإعطاء المرأة حقوقها المرأة، وإيفاد النابهين للتعلم في كل الدول المتقدمة، ومراجعة كل الأخطاء الكبرى التي حدثت في تجربة حكم طالبان الأول، من القضاء تمامًا على زراعة الأفيون، والسعي لإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وسياسية مع دول العالم، وضبط حدود الدولة، وتسليم الإرهابيين لدولهم.
طالبان عليها العمل أيضًا على التئام النسيج الأفغاني بأعراقه الثلاثة، وبناء إعلام قوي، وفنون هادفة، وصحافة حرة، والاهتمام بالأدب والشعر واللغات والفكر ليخرج من طالبان مفكرون وعلماء وأطباء ومهندسون لا حملة سلاح ومتطرفون.. دون ذلك ستزول طالبان ولكن بعد تدمير وتخريب يجر وراءه آلاف القتلى والمشردين باسم الإسلام.