رامي هلال يكتب: في صالون أحمد ماضي كانت لنا أيام
رامي هلال ناقد وكاتب حاصل على ماجستير في النقد الأدبي، بعنوان: السرد في شعر محمود درويش، وباحث دكتوراه بجامعة كفر الشيخ، وله قيد الطبع مجموعة قصصية عنوانها: رحلة في الملكوت، وصدر له ديوان عامية بعنوان حلوة الدنيا، وله كتب نقدية تحت الطبع، منها: حواديت النهر والبحر عن شعراء كفر الشيخ.
وهذا مقال للكاتب رامي هلال بعنوان في صالون ماضي كانت لنا أيام، وفيما يلي نصه:-
ينتشلك من غفوة الحياة وصحوة الموت فهو معماري يأخذك إلى بساط روحه الممدود، يبني لك عريشا تحت جميزة مثمرة على شاطئ ترعة صافية في قلبه يقدم لك شاي العصاري على جمرات تجربة إبداعية حتى تمر نسائم المغارب.
تحررت موهبته الأدبية ساعة تحرر التراب الوطني لمصر، فبينما كانت خراطيم المياه المندفعة شرقا صوب خط بارليف تفتح ممرا للعشاق المتيمين كي يعانقوا تراب سيناء. كانت ممرات الإبداع تتفتح في عقل وروح المهندس الشاب المقاتل أحمد ماضي، فالتحم التاريخان على أمر مقدور: تاريخ ملحمي لشعب أراد أن يغير قدره ويستعيد قدره، ويصنع مدارات جديدة لليل والنهار، ويفجر مخزونه الحضاري في وجه عدوه الطارئ، وتاريخ شخصي إبداعي لأديب مقاتل صهرته قوة اللحظة المتفجرة في بوتقتها وصاغته على عينها من جديد وشقت صدره لتضع فيه مضغة أدبية جديدة وتنتخبه ليكون الفلاح الفصيح عن شعب مشغول ببناء مستقبله يصارع الحديد والنار.
الآن ينفتح الممر... الضخ يشتد الساتر ينهار الرمل يذوب ويختلط بالماء وينزلق إلى عمق القناة الخراطيم تقترب من جوف الساتر الجنود صاروا كالأشباح لا ترى فيهم العيون ولا ترى الشفاه.
البدوية البكر تجهز زينتها كي تستقبل الفاتحين، وإذ به في أحضانها المشتاقة يبدد سنوات الضياع والخوف، تمسح عن جبهته شقاء السنين، في الظلام الدافئ عاهدته وعاهدها وأوصته أن يسجل الملحمة أن يخلد اللحظة في حروف عالية كألسنة اللهب، أن يكون أمينا على دماء الشهداء ورواية الحرب، غمست قلمه في التراب والدم فاستحال كأنه قلم عملاق على الجبهة فالجنود يسطرون الوقائع على الارض والجندي الكاتب يسطرها في كتاب التاريخ يحررهم من قيود الزمان والمكان ويدخلهم إلى ممر الخلود مرة أخرى.
من يومها وهو باق على العهد محافظا على الوصية، ومثله لا ينكث عهدا ولا يفرط في وصية، وفيا للشهداء وللأرض. انتهت الحرب فلم يغمد سلاحه ولم يعقر جواده فما تزال الجبهات في أرض الوطن ساخنة ملتهبة تحتاج إلى جيوش جرارة من العاملين المخلصين كي تسلط مدافعها على خطوط الجهل والفقر والمرض والفساد وتفتح ممرا في جدار الواقع الصلد؛ كي نستعيد الكينونة ونتسنم السبيل ونرمم أساسات بنائنا الحضاري؛ فيلتئم نسيج الوطن وتتشابك شعيراته الدموية من جديد.
ومثلما كان يقود فرقته بالحب نحو تحرير سيناء قاد صالونا من طيور مصر وبلابلها الشادية فجمع شتات قلوبهم في زاوية خضراء من دلتا مصر، وبعث القرضا من نقطة رمادية في الخريطة كشمعة مطفأة وأحالها إلى بقعة ضوء تسمد وقودها من زيت الشعر فأضحت مركزا ثقافيا وعشا دافئا للعشاق والمريدين المضمخين بعطر الوطن ورحيق الفن والأدب.
وبدأ المعماري الفنان يصمم ويرسم المسارات والخطط في حربه الجديدة ويقود فرقة ناجحة من المبدعين كي يسلمهم القيادة ربما ترك مكانه في العزف الأدبي كي يجد أديبا شابا مكانا في الاوركسترا فهو حريض ألا يبرح كراسي المتفرجين كي لا يفقد دهشته. قلدته ربة الكرم إمارة الفقراء فهو لمروءته ضيف في صالونه والغرباء هم أصحاب الدار وإذا هممت أن ترد له بعض الجميل قال لك لست أنا لكنه اسمي.
تسعة عشر عاما تشكلت على يديه دلتا ثقافية جديدة في وادي الثقافية المصرية يرفدها جداول صغيرة من الإبداع والحب مملوءة بطمي خصيب يصلح لاستعادة النهضة الأدبية مرة أخرى حتى فاض النهر واستقام الغناء.