قادمة من مياه المسيسبي.. كيف استغل المصريون الإستاكوزا الأمريكية بعد غزوها نهر النيل؟
غزت إستاكوزا نهر النيل البيئة المائية المصرية في الثمانينيات، عندما جاء بها أحد أصحاب المزارع السمكية من بيئتها الأصلية بالولايات المتحدة الأمريكية، ليلقي بها في إحدى مزارعه في منطقة منيل شيحة بمحافظة الجيزة، وهو ما أدى إلى انتشارها في كافة أنحاء نهر النيل من الدلتا وحتى محافظات الصعيد.
واشتكى عدد من الصيادين منها ومن تمزيقها شباك صيدهم، حسب الدكتور مجدي خليل أستاذ البيئة المائية بجامعة عين شمس، الأمر الذي جعلهم في كلية العلوم يجرون دراسات بحثية حول هذا الكائن الغازي والغريب على البيئة المائية المصرية لمحاولة التكيف مع الوضع الجديد، وحتى لا يحدث أضرارًا كبيرة لها.
هذا الأمر اضطرهم إلى زيارة جامعة تكساس بالولايات المتحدة، لدراسة هذا الكائن في بيئته الأصلية، لتنصحهم الجامعة بمحاولة استغلاله والاستفادة منه، بدلا من محاربته والحديث لازال للدكتور مجدي خليل.
ويصف الدكتور محمد سعيد الأستاذ المساعد لعلوم البيئة المائية في كلية العلوم بجامعة عين شمس، نظرة الصيادين المصريين الحالية لـ "الإستاكوزا" النيلية بالمختلفة حاليًا، إذ كانوا في السابق يتخلصون منها ويحرقونها، بينما الآن يصيدونها، لتصديرها حية أو مصنعة إلى الخارج، وتحديدًا إلى أمريكا الشمالية والصين.
ولفت إلى أن طبيعة إستاكوزا نهر النيل المنتشرة حاليًا في مصر تنمو بكثافة مع المناطق ذات الحرارة المرتفعة، والمياه النقية، لذلك فهي تتركز بكثافة كلما اتجهنا جنوب مصر، خاصة في مدينة أسوان.
أجرى سعيد بحوثًا ميدانية ومسحًا كاملًا لنهر النيل من أجل دراسة ذلك النوع من القشريات، والذي ينتمي إلى ما يطلق عليه إستاكوزا المستنقعات الحمراء، كما تسمى أيضًا بروكامبرس كلاركي، ويتم إنتاج 90% من حجم المحصول السنوي لهذا النوع في ولاية لويزيانا بالولايات المتحدة الأمريكية، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر موقع الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية الإلكتروني.
وأكد سعيد أنه سافر إلى الصين كباحث لنقل تجربة المزارع الصينية، في كيفية التعامل مع الإستاكوزا إلى مصر، مشيرًا إلى أنه سيتم تطبيق تلك التجربة قريبًا على مزارع استاكوزا مصرية.
مخاطر الانتشار في النيل
يحصر الدكتور مصطفى فودة مستشار وزيرة البيئة للتنوع البيولوجي، أهم أضرار الإستاكوزا في تغذيها بشراهة على سمك البلطي أحد أكثر أنواع الأسماك التي يأكلها المصريون، كما تمزق شباك الصيادين، وتفسد التربة.
في السياق ذاته، قال مجدي توفيق خليل، أستاذ البيئة المائية بكلية العلوم في جامعة عين شمس، لـ القاهرة 24، إنه تم اكتشاف تجاويف وحفر يصل حجمها إلى متر في الترع والمصارف، نفذتها تلك الكائنات الغازية للبيئة المصرية، مما يتسبب في انهيارات لها ويدمرها.
ويعيش هذا الحيوان في حفر يلجأ إليها هربًا من أعدائه أو أثناء البيات الشتوي، كما تلوذ بها الأنثى أثناء وضع البيض، وهو عادة يكمن خلال النهار ثم يخرج ليلا بحثًا إما عن الطعام أو للتزاوج، وفق ما جاء في ورقة إستاكوزا المياه العذبة ما لها وما عليها" المنشورة على موقع هيئة الثروة السمكية المصرية.
يكمن الضرر الأكبر في كون تلك القشريات عائلًا وسيطًا لبعض أنواع البروتوزوا كائنات أولية تتغذى عليها بعض الديدان الطفيلية، ما يُسبب مشكلاتٍ بيطريةً عديدةً للكائناتِ النهرية، لافتا إلى أن بعض الأمراض التي تستضيفها إستاكوزا المياه العذبة يُمكن أن تنتقل إلى الإنسان عن طريق تناولها، ومنها الأمراض التي تُسببها النيماتودا، وهي ديدان أسطوانية الشكل تُسبب التهاباتٍ شعبيةً حادة، كما يُمكن أن تنقل تلك الكائنات مرض التهاب السحايا إلى دماغ الإنسان، حسب ما جاء في مقال نشره الموقع الإلكتروني لمجلة scientificamerican نقلا عن دراسة حالة نفذها محمد رضا الأستاذ بالمعهد القومي لعلوم المصايد والبحار.
كيف دخلت استاكوزا المياه العذبة إلى مصر؟
لكن ما كان محيرا هو متى وأين بدأ غزو هذا الحيوان القشري المعروف أيضا بـ جراد البحر الأمريكي مياه النيل؟ في البداية، كان من المحتمل أن هذا الكائن دخل المياه المصرية من جهة الجنوب، حيث إن وجوده في مياه السودان كان معروفًا للعلماء منذ زمن، إضافة إلى العديد من بلاد حوض النيل في وسط إفريقيا، لكنه لم يوجد في مياه النيل في مصر العليا جنوب الجيزة.
على صعيد آخر، تقول الهيئة العامة للثروة السمكية: توصل عديد الباحثين المصريين إلى أن نقطة البداية لانتشار هذا النوع، هي عدة مئات منه تم استيرادها أوائل الثمانينات من الولايات المتحدة الأمريكية، لاستزراعها في إحدى المزارع السمكية في منطقة منيل شيحة بمحافظة الجيزة.
ورغم أن هذا المشروع قد توقف بعد قليل إلا أن القدرات البيولوجية غير العادية لهذا الحيوان القشري، أتاحت له بل ومكنته من أن يستقر وينتشر خلال السنوات الأخيرة في البيئة المائية المصرية، ومن محافظة الجيزة تسلل إلى معظم المحافظات الشمالية مرورًا بمحافظة القاهرة.
نقمة تحولت إلى نعمة
سمحت هيئة الثروة السمكية التابعة لوزارة الزراعة بتصدير استاكوزا المياه العذبة للدول الآسيوية، إذ يوجد طلب كبير على تناولها، كما تقول الدكتورة أماني أحمد، مدير عام الإدارة العامة للشؤون البيطرية في هيئة الثروة السمكية لـ القاهرة 24، مشيرة إلى أن تصديرها يدر دخلًا، ويفيد البلاد في دخول العملة الصعبة، كما يفيد البيئة المصرية بالتقليل من أعداد الاستاكوزا التي تضر بالنظم الإيكولوجية للمياه العذبة.
وبنى الصينيون أول مصنع في مصر لمعالجة وتصدير الإستاكوزا في عام 2003، حتى زاد العدد إلى عشرة مصانع، وفق ما قاله الدكتور مجدي خليل، والذي لفت إلى أن 80% من الاستاكوزا التى استوردتها الصين بين عامي 2014 و2017 جاءت من مصر، حتى صارت مورد دخل للعديد من الأسر، ومن بينها ماجد عبد السلام حسن، أحد كبار موردي الإستاكوزا بالصعيد، والذي بدأ في يونيو2010 بجمع الاستاكوزا التي كانت موجودة بكثافة في تلك الفترة، لبيعها لمصنع في مدينة العبور بالقليوبية بـ 4 جنيهات للكيلو، وصدرها المصنع إلى الخارج بـ 6 جنيهات.
يشير حسن إلى أن سعر الكيلو يصل الآن إلى 40 جنيهًا لوزن يتجاوز 40 جرامًا لكل واحدة، و20 جنيهًا للأحجام الصغيرة التي تصل إلى 20 جرامًا، وقد يصل سعرها في بعض الأحيان إلى 60.
وبلغت الكميات المصدرة من الإستاكوزا 13 ألف طن خلال عام 2019، وفق ما يؤكده الخبيران أماني أحمد ومجدي خليل الذي لفت إلى مفارقة هامة، إذ أسهمت الاستاكوزا في القضاء على انتشار قواقع البلهارسيا التي نشرت المرض في مصر، نظرا لتغذيها عليها بشراهة وقدرتها على التهام القواقع الناقلة لمرض البلهارسيا، مما يوفر على الدولة ملايين الجنيهات التي تنفق على علاج البلهارسيا.
ويصعب القضاء على الإستاكوزا بأي شكل من الأشكال، وحتى إذا تم اللجوء إلى المبيدات، لأن هذا الحيوان يتحمل كل أنواع وظروف البيئة المائية، كما يستطيع تحمل جميع درجات الحرارة وأقصاها سواء المنخفضة أو المرتفعة، لذلك لا بدّ من تقليل أعدادها بصيدها وفق ما يقوله رئيس قسم البيئة المائية بكلية العلوم في جامعة عين شمس.
وتعمل 7 شركات مصرية حاليًا بتصدير الإستاكوزا إلى أميركا والصين، وفقًا للمورّد حسن، الذي يقول لـ القاهرة 24 إن الاستاكوزا ذات قيمة غذائية عالية، وذات طعم جيد قريب من طعم الجمبري، لكنها لا تحظى بإقبال من المصريين حاليا، ويتوقع حسن أن يختلف الوضع في المستقبل، خاصة بعد إنشاء مزارع لها في مصر، كونها أرخص من الجمبري الذي يتراوح سعره بين 150 و200 جنيه.
ويبدأ موسم صيد الإستاكوزا من شهر مارس وحتى نوفمبر، كما يوضح حسن، مبينًا أنه يجري تصدير الاستاكوزا إلى الصين حية، بينما تصدر إلى أمريكا مصنعة ومطبوخة.
وأجاز الاتحاد الأوروبي لحوم الإستاكوزا تمهيدا لاستيرادها، ولم يجد بها أي ملوثات من معادن ثقيلة أو ترسبات، وفقا للخبير مجدي خليل، والذي قال إن هذا الحيوان خلال فترة نموه يجري 9 عمليات انسلاخ للقشريات، ما يؤدي إلى إخراج جميع السموم من جسمه.
وتنتشر الإستاكوزا حاليا في جميع المحافظات المصرية على طول نهر النيل، ويحدث أفضل إنتاج لها في أسوان بمعدلات كثافة ونمو عالية، كما يقول خليل، موضحًا أن 35% من حجم الاستاكوزا لا يصلح للأكل، لأنها عبارة عن مخلفات لكن يمكن أن تستخدم في تصنيع مواد مفيدة، إذ تدخل في صناعة الأدوية وتنقية المياه، لافتًا إلى أن هذا النوع بدأ بشكل عام في التأقلم مع البيئة المصرية، وأصبح نموه فيها أفضل وأسرع من بيئته الأصلية بنهر المسيسبي في أمريكا، كونه يأكل أي شيء أمامه من أسماك وغيرها، وساعد في نموه بهذا الشكل الكبير عدم وجود أعداء طبيعيين له في البيئة المصرية.
الاستفادة التجارية من الاستاكوزا
وتمكن الاستفادة من مخلفات الإستاكوزا، واستغلالها تجاريًا، نظرا لأن قشور الإستاكوزا غنية بكربونات الكالسيوم ومضادات للسموم، وفق ما توصلت إليه الأكاديمية مروة مدحت، أستاذ البيئة المائية بكلية العلوم في جامعة عين شمس، خلال إعدادها دراسة الدكتوراه.
وتوضح أنه يتم تحويل هذه القشريات إلى مادة الكيتوزان ذات الفائدة الطبية، إذ يمكن استغلالها كمادة طبيعية غير سامة في مضادات السرطان وعلاجه، مثل سرطان الثدي والكبد، وبالفعل تم تجريبها بنجاح على خلايا سرطانية، إذ يحتوي جسم الإستاكوزا على 23% من مادة الكيتوزان التي تخرج كمخلفات طبيعية، ومن ناحية أخرى يمكن استعمالها في تغذية الأسماك كأعلاف تعمل على تحسين النمو والمناعة لأسماك البلطي.