رامي هلال يكتب: قراءة في قصيدة رسالة إلى البحر الأخضر لـ عبد البر علواني
قدم الكاتب والناقد رامي هلال، قراءة في قصيدة رسالة إلى البحر الأخضر للشاعر عبد البر علواني، من خلال رسالة ماجستير في النقد الأدبي، بعنوان: السرد في شعر محمود درويش، وباحث دكتوراه بجامعة كفر الشيخ، وله قيد الطبع مجموعة قصصية عنوانها: رحلة في الملكوت، وصدر له ديوان عامية بعنوان حلوة الدنيا، وله كتب نقدية تحت الطبع، منها: حواديت النهر والبحر عن شعراء كفر الشيخ.
يقول رامي هلال خلال مقال نقدي للقصيدة، وفيما يلي نصه:-
تظل الطبيعة ملهمة دائمة للشعراء، فبينما يحاولون الكشف غموضها وأسرارها تتكشف ذواتهم الشعرية شيئا فشيئا، والحق أن الطبيعة هي التي تعيد اكتشافنا من خلال نظرتنا إليها، ووسائل تعبيرنا عنها.
وشاعرنا قد وجه قصيدته إلى البحر، وقد اختار له نعتا محيرا؛ فالرؤية الشعرية لديه حولت الواقع الخارجي إلى واقع داخلي يمر عبر صبغة نفسية ووجدانية. ومؤشر التحول ظهر في اللون داخل الصورة الشعرية من لون البحر (الأزرق) في الواقع إلى (الأخضر) داخل التجربة الشعرية ،وعنوان القصيدة (البحر الأخضر ) يحيل إلى عوالم جديدة داخل القصيدة ويفتح باب التأويل على مصراعيه، ويجعلنا نتساءل: هل هو بحر حقيقي له مدلول في الخارج ؟ أم بحر من الأسرار والفيوضات والرؤى ؟ أم بحر للأمل؟ أم بحر للزمن؟
ولذا شاع في القصيدة غموض محبب يغري القارئ بالمتابعة ؛لفك أسرار هذا البحر الأخضر، وقد نقلت حالة الاستفهام المستولية على القصيدة: تنوعا دلاليا، وجزءا من الحيرة والتردد والغموض التي اكتنفت الشاعر، كما لونت الخطاب الشعري بحالة من الرجاء والتوسل للبحر؛ وذلك بعدما تجمعت سحب استفهام كثيفة جاءت من ناحية البحر، وأمطرت المتلقي بوابل من الأسئلة: منذ كم - ماذا يثيرك منذ آلاف الحقب- من صديقك – من غريمك – من تعادي – من تحب- أنت من – هل ستأخذني – هل ستتركني؟.
واستطاعت القصيدة أن تدير حوارًا مع البحر مستدعية إياه عبر مشاركة وجدانية استهلها الشاعر في مفتتح قصيدته بالنداء الذي أشاع جوا من الحركة التعبيرية واستدعى الحوار والتشخيص في الصورة الشعرية، وذلك من خلال توزيع أسلوب النداء عبر مقاطع القصيدة:
1- أيها البحر المسافر عبر أوردة الزمن.
2- أيها الممتد جسرا بين أضلاع الزمن.
3- أيها البحر أجبني.
4-أيها البحر تمهل.
فالنداء قد عمق الحوار في القصيدة بين الذات الشاعرة والبحر، وأبرز بلاغة التوسل في خطابها معه، وكان بمثابة علامة على مفاصل القصيدة، ودفقاتها، ونقلاتها في المحاورة، كما ربط عضويا بين مفتتح القصيدة وختامها، ورسم في بنيتها العميقة روح الحكاية،ودليل ذلك التوتر الحادث بين النداء الأول في مفتتح القصيدة والنداء الأخير قرب نهايتها:
أيها البحر تمهل
هل ستتركني وحيدا
تعبث الأمواج بي
أم سترسلني أغني
حاملا بالرغم مني كل عمري في يدي.
وشكاية الشعراء للبحر جديدها قديم، وهي حالة وجدانية تجنح إلى مصادقة الطبيعة،والتفاعل معها، وبث الشكوى إليها بعيدًا عن تغول البشر، كما في قصيدة المساء للشاعر خليل مطران وفيها يقول :
شاك إلى البحر اضطراب خواطري فيجيبني برياحه الهوجاء
فالبحر عند خليل مطران ما لبث أن أجابه، و(فاء) التعقيب في البيت السابق تنبيك عن سرعة الإجابة، وتشير من طرف خفي إلى التوحد والتشاكل والتشابه بين ذات الشاعر المضطربة = والبحر المضطرب الهائج.
لكن شكاية الشاعر للبحر في القصيدة اتخذت ملمحًا جديدًا في التناول، فالبحر عند العلواني بحر صموت غاص بالأسرار، معرض عن البوح حتى كاد الشاعر أن يخشى عليه من الموت صمتا، ولقد طمأنه الشاعر داخل القصيدة محاولا أن يحل عقدة رهبته، وتوسل إليه في ندائه الثالث أن يجيبه (أيها البحر أجبني)، وقد استدل الشاعر بالأصداف على عدم إجابة البحر؛ فتشكلت الأصداف معادلا موضوعيا لحالته الشعورية، ولم يخف الشاعر خوفه من أن يهمله البحر كما أهمل الأصداف وهي تشكو آلامها إليه:
هذه الأصداف مثلي
قد تخلى البحر عنها
وهي تشكو بعض آلام إليه.
إن الشاعر قد كشف لنا جزءا من نفسه حين عرضها على البحر، واستطاع أن يوصل رؤية جديدة فيها دلالات رمزية، ويلون عالمه الشعري بما أملته عليه الطبيعة الملهمة للشعراء.
وجاء النص الكامل لقصيدة رسالة إلى البحر الأخضر كالتالي:-
أيها البحر المسافر
عبر أوردة الزمن
منذ كم يا بحر
أسأل عنك نفسي
أنت من؟
فلتجبني أنت من؟
واتخذني اليوم خلا
لن أبوح إلى السماء ببعض سرك
أنت سري
فاحك لي
ماذا يثيرك منذ آلاف الحقب؟
من صديقك؟
من غريمك؟ من تعادي؟
من تحب؟
إنني أخشى عليك
الموت صمتا
لا تخف مني
وبح لي
إنما الصمت انتحار
فتحدث
هذه الأصداف بنتك
صافها كل مساء
لن تبوح إلى الرمال
إلى الرياح
وربما كانت لسرك حافظة
أيها الممتد جسرا بين أضلاع الزمن
المدى فيك اشتهاء..وانتهاء
والمسافات استحالت
عند طرفك خطوتين
فالتمس لي العذر أني
جئت ألقي فيك حزني
وأواري بعض دمعي
وأنا رغم امتدادي
لا أساوي قطرتين
أيها البحر أجبني
هل ستأخذني وتمضي إن أتيتك
والدموع بمقلتي؟
أن شكوت إليك شوقي
بعض آلامي وحزني؟
هل ستأخذني وتمضي أم ستلفظني بعيدا
كي أقاسي مرتين؟
هذه الأصداف مثلي
قد تخلى البحر عنها
وهي تشكو بعض آلام إليه
أيها البحر تمهل
هل ستتركني وحيدا
تعبث الأمواج بي
أم سترسلني أغني
حاملا بالرغم مني
كل عمري في يدي؟