الندم على الوفاء والإخلاص
دائما الندم على الذنب أو المعصية لا على الطاعة والأخلاق الحميدة والمعاملة الطيبة، فكيف يكون الندم على الإخلاص؟!!
الوفاء والإخلاص ليستا مجرد كلمتين، بل هي روح عطرة شذية، وقلوب خيرة ندية يتسم صاحبها بالمروءة والشجاعة والإقدام والصبر والصدق والأمانة والود والمحبة والتضحية والإيثار والصداقة والأخوة والإخلاص والصداقة الحقيقية هي الثقة المتبادلة والحب دون مصالح، أفضلها التي تولد وقت الأزمات والمحن والشدائد والمصاعب والمتاعب والاحتياج، فهي ليست مجرد أقوال، بل أفعال.. إيثار بالمال والجهد والوقت والمستقبل بل والنفس، والصداقة والأخوة تحمل الكثير من المعاني النبيلة السامية، هي العهد والميثاق، النصح والإرشاد، العون على فعل الخير والصلاح، هي الإمساك باليد عندما يفلتها العالم كله.
وفي زمننا انسلخ الوفاء والإخلاص وكثر الغدر والخيانة والأقنعة الزائفة، أصبحت المصالح تتصالح، فنحن أبناء اليوم: الرخاء والقوة والمكانة، ولا أتمنى أن أتذكر تلك الأيام العجاف، فقد رأيت الناس شيمتهم الخداع يعيشون مع الذئب ويبكون مع الراعي، فماذا يفعل ذو مروءة بين أهل الخداع وفي أرض النفاق؟
الوفي الذي تعود على الصدق والأمانة في النصح، فأصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة، يكره الخداع والغدر والنفاق والرياء والتملق والتزلف المذموم، في حين أبدع الكثير من اللئام في تملق وخداع رؤسائهم، ولديهم المبرر لكل تصرفاتهم؛ إذ إنهم يستخدمون نظرية المؤامرة تارة، ويستعينون بالتلوّن الحربائي مرة، والإفراط في المدح باستماتة تارة أخرى، رسموا لهم الحياة الوردية، وتعاون هؤلاء على الإثم والعدوان، فكانت الوشاية بزملائهم الشرفاء وتزوير الحقائق، فلفقوا التهم للمخلصين، وأقنعوه رؤساءهم بأن كل المصائب والمحن التي حلت بهم منذ مولدهم إنما هي بيد الأوفياء!!!
صدق فيهم قول الله تعالي: "وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ"، ولأنه يحب البعض يحب المدح والثناء يصبح آذانًا صاغية، وتملقه سهلًا يسيرًا، يصدق كلماتهم واتهاماتهم الباطلة، ومزق مواقف ما كان له أن ينساها، فقد اشتراه الوفي في الوقت الذي باعه الجميع بأبخس الأثمان، ولما اشتد عوده صار أعداء أمس أصدقاء اليوم فقربهم وكافأهم ونسي قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).
فلما تبدلت المواقف، بات الصديق الوفي أَخْوَنَ الناس وأبعدهم عن القلب، فقد كانت له مهام قام بها وأنجزها، ولم نعد الآن بحاجة إليه، فلا بد من تشويه صورته ومعاقبته ومراقبته ومحاصرته، ونسوا قول الله تعالى: “وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ”.
ولما اشتد مكرهم وخبثهم وعداؤهم بموافقته ورعايته اعتصم الوفي بالله تعالى الذي قال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، ولم يعد العتاب يجدي، فقد بات الوفي عنده عدوًا خائنًا، ولسان حالة الندم على الوفاء والإخلاص مرددًا قول الله تعالى: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، وبعد أن تنتهي قوتك وسلطتك: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، ولقد أبدع الإمام الشافعي في أبيات شعر عن الوفاء والإخلاص في الصداقة والأخوة، يقول فيها:
إِذَا المَـرْءُ لاَ يَـرْعَـاكَ إِلاَ تَكَلُّفـا
فَـدَعْهُ وَلاَ تُكْثِـرَ علَيْـهِ التَّأَسُّفَـا
فَفِي النَّـاسِ أَبْدَالٌ وَفِي التَّرْكِ رَاحَـةٌ
وَفي القَلْبِ صَبْـرٌ لِلحَبِيبِ وَلَوْ جَفـا
فَمَا كُلُّ مَنْ تَـهْوَاهُ يَهْـوَاكَ قَلْبُـهُ
وَلاَ كُلُّ مَنْ صَافَيْتَـهُ لَكَ قَدْ صَفَـا
إِذَا لَمْ يَكُـنْ صَفْـوُ الوِدَادِ طَبِيعَـةً
فَلاَ خَيْـرَ فِي خِـلِّ يَـجِيءُ تَكَلُّفَـا
وَلاَ خَيْـرَ فِي خِلٍّ يَـخُونُ خَلِيلَـهُ
وَيَلْقَـاهُ مِنْ بَعْـدِ المَـوَدَّةِ بِالجَفَـا
وَيُنْكِـرُ عَيْشـًا قَدْ تَقَـادَمَ عَهْـدُهُ
وَيُظْهِـرُ سِرًّا كَانَ بِالأَمْسِ قَدْ خَفَـا
سَلاَمٌ عَلَى الدُّنْيَـا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِـهَا
صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الوَعْدِ مُنْصِـفَا