الرواية والريف.. توفيق الحكيم ينقل الواقع البائس في يوميات نائب في الأرياف
العديد من الروايات تناولت الريف المصري، واستطاعت أن تصور عالمه وما يدور فيه، من بين هذه الروايات رواية يوميات نائب في الأرياف، للكاتب الكبير توفيق الحكيم.
من الروايات التي دارت أحداثها في الريف، رواية يوميات نائب في الأرياف للكاتب الكبير توفيق الحكيم، الصادرة في عام 1937، وتدور حول وكيل نيابة قاهري ويذهب للعمل في الريف، وهناك يرى بعينه حياة الفالحين البائسة وكيف أنهم يعيشون ضحية قوانين لا تصلح لهم، كما يسرد عددا من القصص التي يقوم بالتحقيق فيها بأسلوب ساخر ومليء بالمفارقات كما يسرد معاناته في الحياة في الريف وعدم قدرته على التكيف معها بسبب البعوض والذباب.
يقول الدكتور محمد حسن عبدالله، في كتابه الرواية والريف إن اليوميات تقوم في مجملها على محورين رئيسيين هما أن الريف المصري محکوم بقوانين لم تنبع من حاجاته، ولم تحترم أعرافه، ولم تضع في اعتبارها مستواه المادي والاجتماعي بوجه عام، هذه قضية أساسية نجدها في قاعات المحاكم، كما في سلوك الموظفين، ولهذا يصور الحكيم
أبناء الريف بين خاضع لهذه القوانين رغم أنفه، لم يقتنع بحكمتها أو صوابها، وبين فارٍّ منها لاجئ إلى قانون الريف الخاص المتمثل في تقاليده المسيطرة.
ويضيف الدكتور محمد حسن عبد الله، في كتابه الرواية والريف: يتأكد هذا المحور الأول بوجود المحور الثاني الذي يعمل على تعميقه وليس التخفيف من بليته، وهو ماثل في موظفي الدولة من رجال أمن وإدارة وقضاء، إنهم عابثون فاسدون غارقون في البحث عن منافعهم الشخصية، لا جرم أنهم حريصون على تطبيق القانون حين يكون أداة أخذ ونهب من الريف، ثم هم لا يعبؤون به ولا بالفلاحين حين يكون طريقا لنيل حق بين القاضي السريع والقاضي البطيء.
تتجلى صور الفقر والتخلف وتعسف الأحكام المنمقة بالمنطق والمذكرات التفسيرية، والفلسفة، دون أن يبحث أمرها على مستوى الممكن، والبديل، والطبائع السائدة.
ويرى الدكتور محمد حسن عبدالله أن توفيق الحيكم لا يحكم على الواقع من خلال معاناته ومعايشته، ولكنه يحكم عليه من خلال تأملاته الفكرية المسبقة ذات الطابع المثالي دون الدخول في تفاصيل الواقع.
من أجواء الرواية
لم نستطع أن نعرف شيئا من الشيخ عصفور، ولم نستطع كذلك أن نقبض عليه، فهو لم يرتكب أمرا يقع تحت نصوص القانون فأطلقناه، وخطر ببالنا أن ندفع في أثره أحد المخبرين عسى أن نستكشف مخبأ الفتاة... ولكن أين هو المخبر السري الذي يخفى على الشيخ عصفور؟ إنه يعرف كل رجال الحفظ معرفة أكيدة، وهو الذي قام معهم في الوقائع مئات المرات، وسهر معهم وأكل وشرب وغنى وأنشد، ودلهم على مخابئ الأسلحة، واقتفى معهم آثار المجرمين، إنه يكاد يحسب من أسرة البوليس.
تركناه ينصرف في سلام، وقد اكتفى المأمور الحانق بأن شيعه إلى الباب بصفعة على قفاه شفى بها غليله، وانصرف بعد ذلك كل منا إلى شأنه المأمور إلى ناديه، وأنا إلى منزلي حيث خلعت ملابسي وخلوت إلى نفسي، وأخرجت کراسة يومياتي ألقي فيها هذا الكلام الذي لا أجد من أفضى به إليه في هذا الريف، إن القلم لنعمة لأمثالنا ممن كتبت عليهم الوحدة، ولكن القلم کالجواد ينطلق أحيانا من تلقاء نفسه كالطائر المرح، وأحيانا يحرن ويثب على قدميه ويأبى أن يتقدم كأن في طريقه أفعى رافعة الرأس، وهو الساعة يهتز في يدي ويرقص ولا يطيعني كأن شيئا يخيفه أو يقصيه عن مروج الأحلام.