د. أحمد فرحات يكتب: الملامح الفارقة لرواية المرأة
الدكتور أحمد فرحات من مواليد محافظة القليوبية عام 1968، حاصل على دكتوراه في الأدب من جامعة القاهرة، كلية دار العلوم، له الكثير بمرتبة الشرف الأولى من المؤلفات منها المنصفات في الشعر العربي الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018م، الخطاب الشعري في المدينة المنورة، التعبير الوظيفي والإبداعي، القصيدة المغناة في الشعر العربي. دراسة أسلوبية فنية، شعراء مصر المعاصرون، دراسات في الشعر السعودي، وهذه دراسة له بعنوان الملامح الفارقة لرواية المرأة.
الملامح الفارقة لرواية المرأة
لا يفرق بعض الدارسين بين الأدب النسوي، الذي تفرزه المرأة، والأدب الذكوري، الذي يفرزه الرجل، أيا كان اتجاه ذلكم الأدب. وقد كنت أميل إلى أن الأدب لا جنس له، حتى قرأت-بعمق- أدب المرأة في الشعر والرواية والقصة القصيرة وغيرها من فنون القول المختلفة، حتى تبينت أن ثمة بونا كبيرا بين الاتجاهين.
"ما إن أصبحتْ خارج المبنى حتى فتحتْ هاتفها الخلوي الذي أغلقته منذ دخلت الإستوديو خوفًا من بطشه.. عشرات المكالمات الفائتة من زوجها ووالدها وإخواتها أيضًا.. يبدو أن عادل قد أصابه الملل من عملها ولم يعد يحتمل.. ها هو قد شكاها إلى والدها بالفعل كما هددها منذ يومين".
وردت هذه العبارة في الرواية، فانظر إلى الضمير الذي استخدمته الساردة أماني عطا الله ستجد للتو أنها تتحدث بضمير الغائبة ولم تنجرف إلى استخدام الضمير الغائب مثل كثيرات ممن كتبن بضمير الغائب وهن يتحدثن عن مؤنث فانظر مثلا إلى قول مي زيادة وهي تخاطب طائفة من النساء وقد استخدمت لنفسها ضمير المذكر تقليدا وعادة للكتابة الذكورية المتجذرة في أعماقها.
"أيتها السيدات..
أنا المتكلمة، ولكنكن تعلمن أن ما يفوه به الفرد فنحسبه نتاج قريحته وابن سوانحه، إنما هو في الحقيقة خلاصة شعور الجماعة، تتجمهر في نفسه ويرغم على الإفصاح عنها.
فمن الملامح الفارقة لرواية المرأة عند "عطا الله" أن المرأة عنيدة، تٌقبل على التحدي، لا تهابه، ولا تخشى زوجا ولا ابنا ولا أبا ولا أما، تعشق المغامرة، وتعيش وهم الوصول والشهرة، وتضحي في سبيله بكل غال وعزيز. وتعشق الرجل الفظ، شديد القلب، عنيف اللسان، قوي الساعدين، تعشق انهياره أمام هونها وجمالها. فهي تؤمن بالجمال، وتعتبره سلاحها ضد عنف الرجل زوجا كان أو زميلا، محبا كان أو محبوبا.
روايات عطا الله تجنح إلى التسليم المطلق بشحوب الموضوعات والأحداث، ولا تبالغ في سردها فلا تميل إلى سرد كبار الأحداث ذات النزعة الحماسية أو الوطنية بل تميل إلى الرومانسية في أدق تفاصيلها. ومن ثم فلن تجد في عالمها الروائي أحداثا جساما، أو موضوعات كبرى كالروايات التاريخية التي تحاكي أحداث الوطن الكبرى، بل تميل إلى عبق الحب، وتكشف أسراره وخفاياه للقارئ.
بطلة الرواية عند أماني عطا الله تعمل كاتبة رواية، تحلم بالشهرة، وتعيش وهم الوصول، وعلى عكس ما تدعيه المرأة في كونها ضحية العنف من الزوج أو الأب أو المجتمع فإنها نفسها تمارس عنفا على الزوج والابن الصغير، وتظهرها الساردة في صورة امرأة متزوجة من شاب يعمل مهندسا، ينعمان بالسعادة في وجود طفل صغير يمثل لهما عين السعادة والحب، حتى يظهر لها مخرج سينمائي حاد الطباع، سريع الغضب، ينشأ بينهما مع الأيام إعجاب من نوع ما، سرعان ما يتحول الإعجاب إلى حب، ويلتقط المتلقي طرفي الصراع بين البطلة والزوج والمخرج، حتى تخرج منه الساردة بفكرة مؤادها أن الوصول إلى الشهرة وهم كبير، إذا لم تتوافر له أسسه ومنطلقاته الإيجابية.
ويمثل المكان في الرواية دور البطولة، فالرواية مؤطرة بسياج من مكان محدد لا تنوع فيه، الإستديو والبيت وهما طرفا المكان الفاعل في الرواية برمتها، فضيق المكان وتحديده جعل الساردة تركز على الملامح النفسية للشخصيات، من خلال التركيز على الملامح الجسمية لهما، فالبطلة مثلا عندها لازمة في تكوينها الخَلقي وهي أنها تلعق لسانها كلما مرت بموقف يدعو للحرج أو الارتباك، وهذه اللازمة كانت سرا من أسرار إعجاب المخرج لها، فإنها تزداد بريقا وجمالا إذا قعلتها أمامه، أو إنها تستميل بها حنو الزوج وتستعطف بها قلبه ليميل إلى تقبيلها، واللافت حقا أن المرأة عند الساردة كانت هي التي تبدأ باستخدام أنوثتها في مواجهة تسلط الرجل أو عنفه، فتحاول بها استرضاء زوجها الشاب. وهو سلاح نمطي في يد المرأة البطلة، تستخدمه عند اللزوم، سواء مع الزوج أو المخرج ذي العضلات القوية أو الصوت الغاضب غالبا.
لم تكن الأنوثة وحدها سلاح المرأة عند الساردة، بل أحيانا تستخدم دهاءها ومرواغتها وكذبها في المواقف التي تقع فيها مرتبكة قلقة؛ فتلوذ إلى الجنون، وتلعب بنار تكاد تحرقها، وترسم تفحمها على جسدها، إنها تراود شيطانها، تستميله إلى فضائها الخيالي أو قل الروائي العنيف، تستقطب فظاظة المخرج وعجرفته وتحوله إلى أحد أبطال روايتها الخيالية، وسرعان ما يقع المخرج المتسلط في حب شفاه تٌلعق من امرأة أقرب ما تكون إلى الشيطان منها إلى الإنسان.
توظف الساردة "عطا الله" كامل طاقتها الإبداعية في لغة رشيقة، وتشبيهات ناطقة بالحال التي عليها، فتستخدم كاف التشبيه بكثافة في روايتها، وغالبا ما يكون وجه الشبه دالا على العبوس والقتامة والفشل والفزع فتأمل قولها "تقدم كالذئب مقتربًا من مروة عزام التي أحنت رأسها كتلميذ فاشل أمامه" أو قولها: "وضع يده فوق كتفها كمن يلقي القبض على لصة أو متسولة مُشردة يخشى عليها من الفرار ثانية" فوجه الشبه قاتم دال على الفزع والرعب.
وفي لغتها مرونة وجدة وطرافة تتمثل في ابتكار عبارات طريفة فتأمل قولها (نبرات ناعسة) ولكن لماذا تريد أن تسمع صوته ثانية؟! هل أدمنت نبراته الناعسة وهو يتحدث إليها؟ فنبرة الصوت لا توصف بالنعاس، وفي وصفها هذا إضافة ملمح طريف يضفي على اللغة مرونة ورشاقة محببة، تساعد المتلقي على مواصلة القراءة بلا ملل.
كما توظف الساردة لغتها في النقاط المفصلية في الرواية، ففي الرواية تمفصلات تمثل منحنيات مهمة في السرد تفصل بين خيوط الواقع وجنوح الخيال، ومن هذه المنحنيات الفارقة في الرواية هذه الفقرة:
"تلك الشيطانة التي سكنتها سلبتها إرادتها كاملة.. عليها أن تتعايش معها بكل ما تحمله من شر وطيش أقرب للجنون.. حتى الرعب الذي ينتابها لحظة تلاحم الواقع بالخيال لا مفر من تغاضيها عنه.. سوف تنتهي من هذه الرواية.. لا مجال للتراجع الآن بعدما بلغت مفترق الطرق.."
استخدام لغة هادئة أقرب ما تكون إلى الهمس وهي تصف نفسية البطلة؛ حيث تبدو الساردة فطنة في مزج الواقع بالخيال، في مهارة فائقة، تنم عن مقدرة عالية في إعمال ذهن المتلقي لاستيعاب عملية المزج والاختلاط. وفي هذا الإطار العجيب لمزج الواقع بتجلياته بالخيال الخصب تسرب الساردة بعض التسربيات النقدية الموظفة بدهاء لتخدم عملية السرد فتقول: "الرواية في اعتقادها نسيج من الخيال تحيكه خيوط من الواقع.. وكلما تآلفا وتناغما كان وليدهما أكثر تألقًا وإبهارًا..."
تتلاعب الساردة بصيغ السرد وتشير إلى المفاجأة في تكوين النهاية وتحديد ملامحها نتيجة تلاقح الواقع بالخيال، لتكشف عن هوية الوليد الجديد في انبهار وتأنق شديدين.وتقدم منظورا متعددا للتعبير عن حالة سردية طريفة، الأنثى بطلة الرواية الحلم/الكابوس، عبر فضاء مكاني محدد(البيت والاستديو) وزمان هو أقرب إلى الواقع المعيش في الصباح والمساء، فتدور الأحداث بينهما، ويكون لتحديد ساعة الصباح أو المساء دور في صوغ صناعة السرد الزمني، لما يتراءى لدى المتلقي من ظلال معان تغذي سير الأحداث، وتدفع به إلى مراد المعنى.
نمطية البناء الفني في الرواية أفقدها مزايا كان يمكن أن تبهر أكثر، فبدأت الرواية بداية تقليدية، حيث اعتمدت الساردة على الوصف والحوار، كتقنية فنية لتظهر ملامح شخصياتها، واشتباك أحداثها، وتتابعها، عبر نبرة هادئة من الوصف والحوار لتصل إلى احتدام المواقف ووقوع البطلة في موقف مأزوم، يكاد يقضي على بيتها وحياتها، وتتشابك بؤرة الأحداث لتصل في النهاية إلى لحظة تنوير تنحل عندها المواقف، ورغم هذا البناء الفني النمطي فإن الساردة امتلكت مقومات السرد بمهارة تحسب لها، فعملت على إحداث صدمة للقارئ عند تلقي النهاية. وترتكز فكرة الرواية على عملية تداخل عجيب بين الواقع اليومي والخيالي الروائي، ومدى قدرة الساردة على تقمص أحداث روياتها بشكل لافت وماهر.
"بريق النار" جملة منقوصة البناء، تامة الدلالة، فليس للنار بريق على المستوى المادي للجملة، ولكن على المستوى الفني وبعد قراءة العمل تتجلى دلالة النار والبريق؛ فالبريق ناجم من إعجاب الأنثى بالهالة التي تحيط برجل صارم، حازم في تصرفاته، فظ في تصرفاته، فبدا الرجل ذا بريق مغرٍ لشيطان الأنثى المتمرد على الزوج والولد والأب والأخ، وبين الشيطان والنار وشائج قربى.
تنتمي الرواية إلى الرومانسية الاجتماعية ذات الطابع الخاص، يبدو كل شيء فيها معكوسا، فالمرأة على غير المعتاد لم تبدُ ضحية لعنف الرجل، والمجتمع، بل بدت قادرة على غواية الشيطان، وبدت شيطانا متمردا؛ فعلبت بالنار، وأظهرت مقدرة على تحويل ضعفها إلى قوة جبارة. وهذا يعني امتلاك الساردة القدرة على التعبير عن صنف من النساء ما دام واجهناه في واقعنا المعيش.
سأغض الطرف عن النهاية الصادمة للقارئ، ولكن لا أستطيع ألا أشير إلى أداء الساردة في الحوار البسيط الذي التزمت فيه الفصحى الميسرة، ولم تشأ أن تقيم حوارا بالعامية دلالة على تمكنها من لغة سردية بامتياز، لم تخل من شاعرية متدفقة عبر مسارات أنساق التشبيهات، والمجازات، والكنايات، المنثورة في ثنايا الحوار، أو التعليق على الحوار بصيغة الراوي العليم، وللأمانة كانت الساردة أكثر حرصا على عدم التدخل في تحديد مصائر الشخصيات، أو لي أعناق الحوار يمينا أو يسارا، فبدت الشخصيات معبرة عن ذواتها بوضوح تام.