من ملهى عقلي إلى مأوى فكري.. عمامة الأزهر تطفئ نيران أحجار الشيَش وتشعل شموع العلم للحضور
الكراسي منظمة اثنين اثنين بين كل طاولة.. الأرض تغطيها بعض قطرات المياه التي رشها عَليُ، صباحًا، أمام المقهى، استعدادًا لاستقبال يوم عمل جديد، يرجُّ المكان صوت حسن شاكوش يغني لبنت الجيران، يعقبه أحمد موزة، يندب حظه في أصحابه الذين بدا غدرهم، واصفًا إياهم بالـ «أندال»، كما يضج الشارع بصخب لعب الأطفال الصغار الممتزج بنغمات «كلاكسات» السيارات المزعجة، هنا مقهى البربري، بمساكن جزيرة أسوان.
داخل المقهى، وعلى أحد الكراسي الحمراء البلاستيكية المكسوة ببعض القماش؛ بغرض الحماية، جلس أشرف، بجوار صديقه أيمن، بعيدًا عن صخب الشارع وضوء النهار، يُحدث أحدهما الآخر عن متطلبات أسرتيهما التي لا تنتهي، أطراف الحديث في تناوب بينهما، يشكو أشرف همّ مصاريف دراسة أولاده، ويباغته أيمن، ساخطًا من كفالة طفله الأول، وصعوبة توفير كافة مستلزماته اليومية.
يقطع الحديث صوت أشرف، ضاربًا يديه ببعضهما مصفقًا ثلاثا: واحد شيشة تفاح وواحد زبادي خلاط يا علي.. شالله ما عن حد حوش، ليرد عليه صبيُ المقهى بعفويته المعتادة: حمامة يا أستاذ.. هنا، جحظت عيني أيمن، واستقام ظهره، مصوبًا بصره خارج المقهى، يتأمل جمال إحدى الفتيات المارة، قبل أن يلقي على مسامعها بعض الكلمات البذيئة، تلى ذلك ضحكة أشرف، قائلا: مفيش فايدة فيك، اتجوزت ومش هتبطل بردوا!.
صمت المكان
كل الأنظار موجهة إلى باب المقهى في ذهول، الموسيقى انقطعت والهدوء عمّ، فلم تعد تسمع حتى صوت تقليب الشاي في الكؤوس، البعض انفتح فمه دون وعيه من شدة تعجبه مما ترى عينيه، ما هذا؟.. إنها عمامة أزهرية تدخل المكان.. مهلًا.. ليست واحدة، بل كثيرات!.
القاهرة 24 ينقل لكم تجربة المقهى الثقافي
السلام عليكم، عاملين إيه؟.. شق هدوء المكان صوت أحد أعضاء قافلة وعظ الأزهر الشريف، يحاول التخفيف من عجب الأمر، وخلق نقاش مع المتواجدين، يستطيع من خلاله تنفيذ ما جاءوا لأجله.
وسط انتباه كافة من بالمقهى، وتعظيمهم لهؤلاء أصحاب الزيّ الأزهري الواقفين بينهم، رغم جهلهم بهوية كل منهم، يبدأ أفراد قافلة وعظ الأزهر، مهمتهم التوعوية؛ مستهلين حديثهم بالتعريف عن أنفسهم، معلنين هدفهم من هذه الزيارة التي بدت مفاجأة لمرتادي المقهى، إلا أن الحقيقة كانت خلاف ذلك، فقد سبق هذه الزيارة، ترتيب وتنسيق مع مالك المكان.
فلاش باك| من حجر الشيشة إلى نسر الجمهورية.. حرص صاحب المقاهي على الاستفادة من الأزهر
«زيارتنا للمقهى بتاعك هتكون رسمية، فهل القهوة بتاعتك مشهرة ومعلنة، علشان الاعتماد؟ وإلا دا هيسببلك مشكلة؟».. سؤال ورد من الشيخ شريف أبو حطب، مدير الدعوة لمنطقة وعظ القاهرة، وعضو لجنة الفتوى والمصالحات ولم الشمل بالأزهر الشريف، وأحد أوائل الواعظين المشاركين في تجربة «وعظ المقاهي» أو «المقهى الثقافي»، خلال حديثه إلى صاحب المقهى محل الزيارة؛ تمهيدًا لمجيء القافلة، ليأتي الرد من المالك بعكس ما توقعه الجميع.
«لو وصل الأمر إني أعتمد لك القهوة بحجر الشيشة بدل ختم النسر، هعتمدهالك بحجر الشيشة، بس بالله عليكم تيجو».. بهذه الجملة، أجاب مالك مقهى البربري بجزيرة أسوان، على سؤال الشيخ شريف، مظهرًا بذلك حرصه الشديد، على تحصيل الاستفادة من واعظي الأزهر الشريف، وكذلك الغنم بثواب كل من سمع واستفاد من حديثهم داخل مقهاه، ما أثر كثيرا في نفس الواعظ الأزهري، حسب ما وصفه إلى القاهرة 24.
المقهى الثقافي
وقال الشيخ شريف أبو حطب، لـ القاهرة 24، إن تجربة المقهى الثقافي جاءت بناءً على توجيهات الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، بالنزول إلى الشباب في مراكز تجمعاتهم؛ وإيمانا منه بأن أغلب مرتادي المقاهي، هم الفئة الأكثر احتياجًا إلى التنبيه والتأثير، ورفع الوعي الديني.
الشيخ أحمد رمزي الصباغ، الواعظ بالأزهر الشريف، وعضو لجنة لم الشمل، وأحد أوائل الواعظين المشاركين في تجربة المقهى الثقافي، أضاف لـ القاهرة 24، أن توجيهات الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، والدكتور نظير عياد، أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، بالنزول إلى الشباب في المقاهي لتوعيتهم، وهو ما اصطلح على تسميته بـ «المقهى الثقافي»؛ جاء حرصًا منهما على الوصول لفئات الشعب المختلفة التي تزور المقاهي يوميا، بمختلف المراحل العمرية، وخاصة الشباب؛ فضلًا عن سعي الأزهر لتوسعة نشاطه، فلا يقف عند المساجد فقط، وهذا من منطلق أن الشباب إذا عزفوا عن المسجد في سبيل الجلوس على المقاهى، فسيأتيهم واعظو الأزهر بأنفسهم إلى هناك.
عودة إلى الحاضر| بالسهولة واللين.. واعظو الأزهر في درس ديني داخل مقهى شعبي
على خلاف العادة والمتوقع، تعامل واعظو الأزهر الشريف بكل أرياحية وسهولة مع مرتادي المقهى، بعيدًا عما يجب وما لا يجب، ودون الالتفات إلى المستحب والحرام؛ ما لفت نظر كافة المتواجدين بالمكان، فقرروا انتهاز الفرصة، وترك كل ما هو أمامهم، من دخان أو ألعاب، وتحويل وقت لهوهم في المقهى إلى درس ديني مجاني، لم يكلفهم حتى بعض الخطوات على أرجلهم لمكان يتلقونه فيه.
صافرة بداية الدرس، أطلقها أشرف بسؤاله عن مكافأة الله لمن تعسر في إيجاد عمل خلال حياته، وماذا يفعل كي يجد عملا يقيه وأسرته حرج السؤال، أعقبه أحد الجالسين خارجًا، يسأل عن عقاب العاق لوالديه، وكأنه أذاق والده مرارة العقوق، ويخشى معايشتها من ولده، تلاهما ثالث، ذو صوت جهور، بدا غاضبًا عند سؤاله: وماذا عن البطالة التي تدفع شابًا مثلي في مقتبل عمره للجلوس على هذا الكرسي يوميًا دون جدوى يا شيخ؟
استقبل واعظو الأزهر الشريف أسئلة الحضور ببشاشة وجه ورحابة صدر، وبدأت النقاشات بينهم، سؤالًا يجذب آخر، والإجابات هينة لينة مقنعة، غير مُعنِّفة ولا مُنفرة، ما شجع أيمن للخروج عن صمته والسؤال عن عقاب المتحرش، وخاصة إذا كانت ثياب الفتيات مثيرة بعض الشيء.
الواعظ الأزهري أحمد رمزي الصباغ، تولى إجابة سؤال أيمن: «والدتك معدية برة أهي ولابسة ثياب ضيقة إلى حد ما، والشاب اللي قاعد برة دة بصلها بس ومتكلمش، وانت شايفه، هتعمل إي؟».. هنا احمر وجه أيمن غضبًا، وعلا صوته بانفعال وانتفض من مكانه، قائلًا: «هخزقله عنيه طبعًا، ويبصلها ليه أصلا بهدوم ولا من غير هدوم!»، ليأتي الرد من الواعظ الأزهري مختصرًا: وهكذا الناس لا يرضونه لنسائهم، معقبًا: حتى وإن قصرت الفتاة في الامتثال لأمر الستر، فإن ذلك لا يمنح الشباب الحق في تخطي أمرهم بغض البصر وكف الأذى، مردفًا: الله يعاقب كلًا على تقصيره؛ فحافظ أنت على نصيبك من الامتثال.
«تُبت».. واعظو المقاهي يجنون ثمار جهدهم
عادت ملامح أيمن إلى السكون بعد الانفعال، وجلس على كرسيه مطأطأً رأسه، بعد أن بهُتت حجته التي اعتاد إلقاءها عند كل محاولة نصح توجه إليه؛ ليقرر من هذه اللحظة، مجاهدة نفسه فيما تهواه، بعد إدراكه أن مجاراة نفسه في هواها، لن يؤل به في الآخرة إلا إلى الهاوية.
«الدم غلي في عروقي لما تخيلت إن دا ممكن يحصل لوالدتي أو بنتي، وخاصة قدام الجمع الكبير دا من الناس».. بتلك الكلمات استهل أيمن حديثه لـ القاهرة 24، معلنًا عن توبته وعزمه على عدم العودة لأمر التحرش مجددًا، واهتمامه بزوجته ومولوده، متقدمًا بالشكر لمؤسسة الأزهر الشريف؛ نظير منحها له فرصة جديدة للحياة، على حد وصفه، مؤكدًا أنه يتمنى حضور واعظي الأزهر الشريف دائمًا؛ ليستفيد منهم في تصحيح أمور حياته.
وعن التفاعل مع واعظي المقاهي، يقول الشيخ شريف أبو حطب، إن الاستجابة والتفاعل من مرتادي المقاهي يكون أكثر وأقوى من المساجد؛ معللًا بأن الأمور في المسجد تقتصر على إلقاء الواعظ لكلمته، أو الخطيب لخطبته، دونما نقاش كثيف مع الحضور، ما يعني أن الاتصال هنا يسير في اتجاه واحد فقط، يقتصر على التلقين، لافتا إلى أن التأثير في هذه الحالة يكون أقل مما هو عليه في حالة النقاش المفتوح، فضلًا عن الوصول إلى فئات كثيرة من خلال وعظ المقاهي، بل وديانات مختلفة، منها المسيحية.
الواعظان الأزهريان، أحمد رمزي الصباغ، وكذلك شريف أبو حطب، عبرا عن سعادتهما البالغة بما يلقونه من استجابة من الحضور، مؤكدين أن الأمر لا يتوقف أبدًا عند حد النقاش، بل يمتد التواصل فيما ما بعد، بينهم وبين الشباب، عبر طلب أرقام هواتفهم المحمولة، وسؤالهم في أمور حياتهم ومشاكلهم المختلفة، عند حاجتهم إلى ذلك.