معضلة إيلي صعب!
ساد إعلاميًّا تناول أزمات محدودي الدخل أو الطبقة المتوسطة وحدهم، فهم الأغلبية الذين يعانون ولديهم مشكلات مالية وقضايا تستحق الطرح والمناقشة والبحث عن حلول، أما فئة ميسوري الحال فالجميع يرى فيهم طبقة لا تواجه أي أزمة بل على العكس كل ما ترغب فيه متوافر.
ولكن مع تطور المجتمع والانفتاح الاقتصادي، أصبحت الفئة العليا من طبقة الأغنياء، لديها أزمة فعلية، وهي عدم القدرة على إظهار تميزهم المادي عن باقي فئات الطبقة الأقل ثراءً، خاصة وأن مقاييس الثراء لا تضع فروقًا بين فئات طبقة الأغنياء.
تخيل أن نفس شعور المعاناة الذي يواجهه محدودو أو متوسطو الدخل، لتوفير نفقات حياتهم ومصاريف المدارس، يعانيه أيضا الأغنياء بشكل يدعو للشفقة عليهم أحيانا خاصة وأن معاناتهم في الغالب لا نهاية لها. دعونا نتطرق لهذه الظاهرة التي تبدو ساخرة في خضم الأحداث اليومية والطاحونة اليومية التي يعيشها السواد الأعظم.
فخلال العقد الأخير، أصبح جميع مَن في طبقة الأغنياء يمكنه على سبيل المثال شراء سيارة مرسيدس أو BMW، وهو ما سبب أزمة لدى الفئة العليا في إظهار مدى ثراهم وتميزهم المادي، وهذا هو لبّ الأزمة، خاصة مع الطبيعية البشرية التي تستهوي إظهار التميز والتفوق الطبقي.
هذا الأمر لم يكن واضحًا خلال الفترة الماضية لعدة أسباب من بينها عدم وجود فروق كبيرة بين الطبقة الثرية، وضعف مزاحمة الطبقة المتوسطة لها في السلع التي تستقطبها، وأيضا بعض مظاهر الاشتراكية التي علقت في المجتمع منذ عبد الناصر.. الغالبية تركب سيارة 128 فيات وتلبس بيجامه كاستور.
ملخص الأمر هو عدم وجود إمكانية لإظهار فارق بين فئات الطبقة العليا، فمَن تبلغ ثروته 10 ملايين لا يمكن تميزه عمن يمتلك 10 مليارات، فكلاهما يركب نفس ماركة السيارة ويصيّف في نفس الفندق ويدخل مولًا واحدًا ويسكن في منطقة واحدة.
أما مؤخرا، فقد فتح الاقتصاد بابه لما يسمى سلع التباهي "ostentation goods"، حتى يتيح إشباع رغبة لدى الفئة الأعلى بطبقة الأغنياء، في إظهار تميزهم، فأصبحنا على سبيل المثال نجد ماركات لسيارات فارهة كـ "لامبورجيني أو استون مارتن أو فيراري".
وحتى أكون واضحًا، فسلع التباهي هذه لا تخضع لقواعد العرض والطلب الطبيعية ولا تهتم بكثرة الجمهور المستهدف، حيث إنها تستقطب فئة ضئيلة جدًّا في أي مجتمع وتحقق من وراء ذلك مكاسب طائلة، وطبيعة جمهورها مختلفة من ناحية إمكانية الدفع مقابل التميز فقط.
فعند وجود سلعة غالية للغاية يستطيع فقط 1 في المليون من مجتمع ما شراءها، تصبح مرغوبًا فيها أكثر، رغم أنه من الناحية العملية، فقد لا يكون لهذه السلعة طلب متزايد بقدر ما يكون سعرها غير مرن للغاية، وقد اكتشف البروفيسور إيتون، من جامعة كالجاري، والبروفيسور إسواران، من جامعة كولومبيا البريطانية، أن الثروة المتزايدة في الاقتصاد تزيد من الطلب على سلع التباهي.
وطبيعة سلع التباهي أن نسبة صغيرة فقط من السكان يستطيعون تحمل تكاليفها، ولذلك تؤدي الثروة المتزايدة إلى زيادة أسعار هذه السلع بشكل غير متناسب للتأكد من أن نسبة صغيرة فقط من الأشخاص يستطيعون تحمل تكاليفها، وحتى في حالة النمو الاقتصادي فلن يزداد الجمهور المستهدف لهذه السلع خاصة وأن سعرها سوف يرتفع للتأكد من قدرة نسبة صغيرة من السكان على تحمل تكاليفها.
قد تتساءل عن السبب في طرحي هذا الأمر، وعندك حق الصراحة، مع غرابته وعدم الانتباه له، ولكن الظاهرة في حد ذاتها تستدعي التوثيق من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، خاصة مع تطور المجتمع وتنامي الاهتمام بسلع التباهي في مجالات متعددة بشكل متزايد مؤخرا.
وفي الحقيقة فقد انتبهت إلى هذه الظاهرة، بعد تلقي عرض من إحدى شركات العقارات، للحصول على فيلا من تصميم "ايلي صعب"، وهو مصمم أزياء عالمي.. صمت برهة، أحاول استيعاب الأمر وبادرت متسائلا عن علاقة ايلي صعب بتصميم العقارات، ليتضح أن المطور العقاري نجح في استجلاب تصميم له لعدد محدود جدًّا من الوحدات.
علمت لاحقا، أنه تم حجز جميع الوحدات حتى قبل أن يبدأ المشروع في التنفيذ، وبالإشارة إلى أن أصغر وحدة يفوق سعرها 25 مليون جنيه، فإن هذه الظاهرة تستدعي التوقف عندها بالتأمل والاعتبار والتوثيق.
عجيب هذا الأمر، فبينما يكون تركيز البعض منصبًّا على إشباع رغباته الأساسية، ويشعر بالرضا التام عندما يحقق ذلك، يوجد من يعاني كلما زادت ثروته ويختفي لديه تدريجيًّا مفهوم الرضا الذي هو أسمى وسيلة للراحة النفسية والمتعة.