شجعان القلب
● من أقل من 20 سنة بحاجة بسيطة الكاتب "بيل ساندرز" حكى في واحد من مقالاته عن قصة بنت جارته اسمها "نيكي" كان عندها وقتها 7 سنين.. القصة بدأت في نهاية السنة الدراسية اللي هي فيها لما البنت رجعت بيتها من آخر امتحان وهي تعبانة ودايخة ورجليها مش شايلاها عكس الطبيعي لشخصية مرحة ونشيطة زيها!.. أبوها وأمها قلقوا.. خدوها جرى عشان يكشفولها في أقرب مستشفى.. التشخيص "لوكيميا" أو سرطان الدم.. المهلة اللي البنت هتعيشها سنة بالكتير حسب تشخيص الدكتور.. صدمة أبوها وأمها ملهاش حدود خصوصًا إنها بنتهم الوحيدة.. لإن المجتمع الأمريكي مختلف عننا شوية في جزئية العاطفة فبلغوا البنت بحقيقة مرضها.. بدأت مرحلة العلاج الكيميائي ومعاها بدأ تساقط شعرها.. البنت لبست باروكة بس الباروكة مش مريحة وبتخدش الجلد وبتسبب لها حكة مش لطيفة بس فضلت لابساها وماكنش فيه عائق في كده خصوصًا إنها كانت في الإجازة وتقريبًا محدش هيشوفها.. بدأ الهم يتشال مع بداية رجوعها للمدرسة بعد الإجازة باستغراب زمايلها من شكلها بالباروكة الكبيرة اللي لابساها.
الفكرة في الموضوع إنك هنا بتتعامل مع دماغ عيال وإذا كان البنى آدم العاقل الراسي الكبير مش بيخلى من تريقة الناس عليه وعلى لبسه وشكله في الطبيعى؛ فما بالك بقى بمجتمع طفولي زى المدرسة الابتدائية كل اللي فيها عيال!.. طبعًا البنت اتهرت من تريقة زمايلها.. الباروكة اتشدت من على رأسها 12 مرة في أسبوعين وكل اللي كانت بتعمله إنها تشيلها من على الأرض وتجرى على الفصل وهي بتعيط.. تروح عشان تأكل البيتزا اللي بتحبها في مطعم المدرسة؛ زمايلها يقوموا قبل ما يكملوا أكلهم.. تقرب من الشلة بتاعتها اللي قريبين منها يتحججوا كل واحد منهم بـ حجة ويمشوا.. الولد اللي قاعد جنبها في الديسك نقل مكانه وكتبه من جنبها وراح قعد في آخر الفصل عشان مايحتكش بيها وملامحه كلها قرف منها!.. سخافة في سخافة في سخافة.. رجعت للبيت في مرة وقالت لـ أبوها وأمها إنها مش قادرة تستحمل خلاص.. أبوها عرض عليها إنها تقعد في البيت وبلاش مدرسة خصوصًا إنه كان بيقول في باله إيه لزمة المدرسة لـ واحدة أساسًا مش هتعيش للسنة الجاية.. البنت وافقت.. ماراحتش لمدة أسبوع فعلًا.. وفجأة في بداية الأسبوع اللي بعده أبوها وأمها فوجئوا بيها لابسة هدوم المدرسة والباروكة بتاعتها ومتأنتكة على سنجة 10 وبتصحيهم الصبح عشان يوصلوها المدرسة!.. مدرسة إيه بس يا "نيكي" ربنا يهديكي يا بنتي.. يمين شمال أبدًا.. هروح يعني هروح.. طبعًا عشان ظروفها الصعبة وعشان مايزعلوهاش طاوعوها وقاموا لبسوا وركبوا العربية هما التلاتة.. طول المسافة مـن البيت للمدرسة محدش فيهم اتكلم بـ حرف.. وصلوا قدام المدرسة.. البنت نزلت وشاورت لهم واتحركت ناحية باب المدرسة.. فجأة وقفت وراحت رجعت لـ أبوها وأمها وسألتهم: (هل تعرفان ماذا سأفعل اليوم؟).. أمها ردت: (ماذا يا ابنتى؟).. ردت بقوة وهى بتضم قبضة إيدها اليمين قدام وشها: (سأقتل الخوف وسأكتشف من هو أفضل صديق لي).. قالتها وراحت قلعت الباروكة بتاعتها ورمتها على كنبة العربية واتحركت بثبات ناحية المدرسة!.. أبوها وأمها مقدروش يمسكوا دموعهم.. الغريب إن يومها محدش من زمايلها خاف منها أو قِرف أو خد جنب.. قدام شجاعتها محدش قدر يفتح بُقه.. قتلت خوفها بشجاعتها فخافوا التانيين.
● من القصص الحقيقية واللي كان ليها صدى في فترة الثمانينات واتحولت لأكتر من فيلم بنفس التفاصيل قصة عامل المزلقان البولندي "كاريو".. عامل بسيط من عمال السكة الحديد في بولندا كان متجوز بقاله 10 سنين بس ربنا مارزقهوش هو ومراته بأي أطفال رغم محاولاتهم الكتيرة إنهم يعملوا ده لكن للأسف ماكنش فيه فايدة.. لحد ما ظهرت طريقة طبية جديدة في العلاج وقتها وخضعوا ليها وبعد 6 شهور من مواظبتهم عليها حصل الحمل!.. نقطة مفصلية في حياتهم الاتنين وخلاص الحلم اللي عاشوا عمرهم يحلموا بيه على وشك التحقق.. فاتت 9 شهور بالتمام والكمال واستقبلوا طفلهم الأول "جون".. بس مع استقبال الطفل كان فيه خبر مش لطيف شوية.. دي المرة الأولى والأخيرة بالنسبة لفرص الحمل لـ الأم.. يعني ماتنتظريش تخلفي تاني.. وبما إن "كاريو" مرتبط ارتباط وثيق روحي أكتر منه ارتباط زواج بـ مراته وبالتالي مستحيل يتجوز عليها؛ كانت دي برضه بالنسباله هو كمان المرة الأخيرة في الخلفة.. بس مش مهم وسخافة الخبر ماقللتش من فرحتهم باستقبال "جون".. مع إن ظروفهم كأسرة مش أفضل حاجة بس ماكانوش حارمين الولد من أي حاجة.. كل ما بيكبر أكتر بيكبر جواهم الخوف عليه أكتر وأكتر.. لازم يتقل هدومه قبل ما يخرج حتى لو الشمس طالعة عشان ممكن الجو يقلب فجأة.. لازم نخلي بالنا عليه 24 ساعة في الـ 24 ساعة.. هنجيبله كل اللي هو عايزه.
الجميل إن "جون" كان طفل لايق أوى على أبوه وأمه وفيه من طيبتهم وبساطتهم.. كبر الولد وقرب يوصل لـ 6 سنين.. ارتباط الولد بأبوه كان أكتر من أى طفل في سنه.. اللي هو لازم أروح معاك الشغل الصبح، ولازم أقعد مع ماما لما نرجع البيت وأقف معاها في المطبخ.. وده كان بيحصل فعلًا خصوصًا إن القرية اللي هما ساكنين فيها مافيهاش مرحلة دراسية قبل الـ 6 سنين فالولد كان لازق لأبوه وأمه وده كان على قلبهم زى العسل.. في يوم وهو بيلعب بـ كورة جنب أبوه في الشغل الكورة جريت واتحركت بعيد عن مكان الكشك بتاع المزلقان اللي أبوه قاعد فيه.. الولد نزل السلالم بسرعة عشان يجيب الكورة.. المشكلة إن الكورة نزلت في حتة منخفضة كده زى جسر صغير هيمر فوقه القطر كمان شوية لما السكة تتقفل.. وقت مرور القطر الجسر ده بيقفل وبيضم على بعضه ومابيبقاش فيه فرصة إن يكون أى مساحة متاحة في النص.
جون ورغم سنه الصغير كان فاهم كده بس برضه صمم ينزل يجيب الكورة.. طب و"كاريو"؟!.. كان بيتكلم في التليفون مع واحد زميله في حاجة خاصة بالشغل.. شوية وجاله إنذار إن فيه قطر جاى بعد أقل من دقيقة!.. بص وشاف فعلًا نور القطر اللي كان واضح رغم الشمس!.. اتلفت حواليه ونادى على "جون" ماسمعش رد!.. بص يمين وشمال وجري ناحية شباك الكُشك وشاف الكارثة!.. "جون" نزل في المنطقة اللي زى الجسر تحت القضبان وواقف تحت وحاطط الكورة تحت دراعه وبيحاول يطلع بإيده التانية.. يا نهار منيل!.. "كاريو" لزم يشد الدراع بتاعت القضبان عشان الجنبين بتوع الجسر يقفلوا على بعض!.. بس لو عمل كده ابنه هيموت!.. في نفس الوقت مفيش وقت إنه ينزل يجيب "جون"!.. في نفس الوقت برضه لو ماشدش الدراع القطر هيتقلب في البحر!.. هيتقلب هيتقلب بجد مش هزار!.. للأسف وعشان الموقف يزيد صعوبة افتكر برضه إنه في مكالمة صديقه اللي كان لسه بيكلمه من ثواني إن القطر اللي داخل ده فيه 58 طفل تبع مدرسة طالعة رحلة!.. والأطفال كلهم عمرهم أقل من 10 سنين!.. موقف قاسي ويهز أي راجل مهما كانت درجة صلابته.. القطر بيقرب أكتر.. "كاريو" بص لـ "جون" لقاه واقف تحت وبطل محاولته إنه يطلع كإنه استوعب إن مفيش فايدة!.. الوضع زاد صعوبة أكتر، والقطر بيقرب أكتر.. "كاريو" بص للسما وبص بصة أخيرة لابنه وفي رأسه مليون استغاثة وسؤال وصرخ وهو بيبكي وشد الدراع!.. الجسر اتقفل على جسم "جون" والقطر عدى بسلام!.. مات "جون" بقرار شجاع من والده عشان يعيش غيره 58 طفلا.. نزل "كاريو" للجسر بعد ما القطر عدى وهو بيلطم وبيصرخ بنحيب.. الموقف هز كيانه وكيان مراته مش يوم ولا اتنين ولا تلاتة.. سنين.. بالظبط 5 سنين الاتنين كانوا في حالة اكتئاب محدش قدر يخرجهم منها.. كاريو صحيح بقى في أزمة نفسية كبيرة ومستمرة معاه ومع مراته لحد وفاتهم لكن لو ماكنش عمل اللي عمله كان هيبقى فيه 58 أب و58 أم زى "كاريو" وزى مراته!.. ده غير إن "كاريو" نفسه ماكنش هيسامح نفسه لو أنقذ ابنه وساب التانيين!.. بعد السنين دي كلها ولما اتعمل حوار مع "كاريو" عن القصة دي وعن سبب قراره الشجاع رد وقال جملة على قد حقيقيتها على قد صعوبتها: (هكذا هي الشجاعة، مؤلمة ولكنها مريحة للضمير أكثر).
● حياة دون شجاعة هي حياة دون حياة.. حجم اللي هتخسره لو ماغامرتش هتبقى أكبر بكتير من مغامرتك بشجاعة.. مفيش مكاسب هتيجي وأنت واقف مكانك.. مفيش طعم لحاجة مش هتتعب عشان توصل لها.. مفيش قيمة لنفسك قدام نفسك لو ماحاربتش بشجاعة.. الكاتب "مارك توين" قال: (بعد عشرين عاما من الآن، ستشعر بالإحباط تجاه الأشياء التي لم تقم بفعلها أكثر من الأشياء التي قمت بفعلها).