محاصيل ملحية وموفرة للمياه.. خطة مصر لتحقيق الزراعة المستدامة
بعد ذبول بعض الأشجار وموت أغصانها وسقوط الثمار قبل نضوجها جراء المرض، اضطر علي أبوزيد، وهو مزارع من محافظة أسيوط لاقتطاع نصف فدان من مزرعته حيث كان يزرعه بأشجار اليوسفي، حيث كان يأمل أبوزيد أن يعيد زراعة الأرض بأشجار الموز بعد فشله في علاج المرض الذي أصاب أشجار اليوسفي، خاصة أن زراعة الموز تحقق دخلا أعلى نسبيا له.
فوجئ المزارع الأسيوطي بقرار وزارتي الزراعة والري رقم 104 لسنة 2020، بمنع زراعة الموز في الأراضي الجديدة، ومنح مهلة 3 سنوات للزراعات القائمة، بسبب شراهته في استهلاك المياه والأسمدة، خاصة في ظل أزمة المياه التي تمر بها مصر حاليا. وكان القرار ذاك، جزء من تحديثات تم إدخالها إلى سياسات مصر الزراعية.
أبوزيد كان واحدا من عشرات الآلاف من المزارعين الذين تأثروا بقرارات الحكومة ولم يتمكنوا من تحقيق ما يطمحون إليه.
قبل عامين من قرار وزيري الزراعة والري، أقر البرلمان تعديلا على 3 مواد بقانون الزراعة رقم 53 لسنة 1966، منحت الحق لوزير الزراعة في حظر زراعة محاصيل بعينها، مع تحديد مناطق محددة لزراعة محاصيل دون غيرها، وأقرت بعقاب كل من يخالف القانون بالحبس مدة لا تزيد على 6 أشهر وغرامة لا تقل عن 3 آلاف جنيه، ولا تزيد على 20 ألف جنيه، عن الفدان الواحد أو كسور الفدان، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كما يحكم بإزالة المخالفة على نفقة المخالف.
وبعد القرار حددت الوزارة مساحات زراعة محاصيل الأرز والموز وقصب السكر داخل المحافظات المختلفة، وأولت إلى مديريات الزراعة والري في المحافظات بمتابعة المساحات المنزرعة وتجريف الأراضي المخالفة للقرار، وتحرير محاضر لمالكيها.
المياه والتصحر.. يهددان أمن المصريين الغذائي
لجأت الحكومة للقرارات السابقة في محاولة متأخرة للتعامل مع الأزمات التي تواجه قطاع الزراعة في مصر، وعلى رأسها نقص حصة مصر المائية مع الزيادة المطردة للسكان وثبات حصتها المائية على مدار القرن الماضي، وفاقم الوضع بناء سد النهضة الإثيوبي الذي يقلص حصة المائية بمقدار الثلث خلال فترة الملء، وفقا لتقديرات خبراء مصريين، علاوة على ارتفاع معدلات تصحر الأراضي الزراعية التي تمثل 4% من مساحة مصر، إذ تتعرض 3.5 فدان للتصحر كل ساعة، حسب إحصائيات الأمم المتحدة، وهي أزمات تهدد الأمن الغذائي للمصريين.
محاصيل بديلة
في ظل هذه الأزمة ظهرت تجارب ناجحة لزراعة نباتات ملحية وأخرى موفرة للمياه، بديلا للمحاصيل الاستراتيجية في مصر، يمكنها أن تعالج مشكلة أبوزيد وأقرانه، فحل نبات الاستيفيا بديلا عن قصب السكر، والأرز الجاف بديلا عن الأرز العادي، ونوع هجين من الذرة الرفيعة بديلا عن الأخرى التي تحتاج لمياه أكثر، إضافة إلى الساليكوريا الذي يروى بمياه مالحة، وينتج منه العلف ويحل بديلا عن البرسيم، وللأخير ميزتين إذ أنه يوفر كميات كبيرة من المياه العذبة، ويوفر مساحات كبيرة من الأراضي يمكن زراعتها بالقمح بدلا عن البرسيم المُستخدم كغذاء للماشية.
الاستيفيا.. أحلى من السكر
وقعت وزارة الزراعة اتفاقية مع شركة «B.O.S» الكورية، أغسطس 2017، تزرع بموجبها الأخيرة 300 ألف فدان، جنوب شرق منخفض القطارة، بنبات الاستيفيا، الذي يُعد بديلًا لمحصول قصب السكّر.
يقول الدكتور عبدالفتاح بدر، باحث بالمركز القومي للبحوث الزراعية، إن لجوء الحكومة للتوسع في زراعة نبات الاستيفيا خطوة تأخرت كثيرا نظرا لفوائده المتعددة، فهو يتمتع بمعدل حلاوة تعادل 200 مرة ضعف حلاوة سكّر القصب، علاوة على أنه يستهلك مياه أقل بنسبة 90% عما يستهلكه قصب السكر، لذلك فهو خيار مثالي لترشيد استهلاك المياه.
يمكن للاستيفيا أن يشكل مصدرا جيدا للدخل للمزارعين، فقد أكد عبدالفتاح أن الجرام الواحد من نبات الاستفيا يعادل 250 جراما من السكر من الناتج عن البنجر أو قصب السكر، كما أنه يزيد إنتاجية الأرض الزراعية، ففدان البنجر يعطى ما بين 5،2: 3 أطنان سكر، والقصب حوالي 5،4 طن من السكر، بينما فدان الاستيفيا يعطى حوالي 400 كجم من خلاصة المادة المحلية، تعادل 80 طنا من السكر.
وأوضح أن هناك 5 آلاف فدان مزروعة بنبات الاستيفيا في محافظة بني سويف ووادي النطرون، خلافا لـ300 فدان الأخرى التي تزرعها الشركة الكورية، ويزرع خلال شهري فبراير ومارس، ويمكن زراعته بالأراضي الطينية أو الرملية، ويدخل في تصنيع 600 منتج غذائي داخل 36 حتى الآن، كما أن له نشاط مضاد للبكتيريا، وله استخدامات طبية عديدة.
الأرز الجاف.. يضاعف المساحات والإنتاجية
ومن الاستيفيا إلى الأرز، فقد نجحت محطة بحوث سخا في محافظة كفر الشيخ، التابعة لمركز البحوث الزراعية، في استنباط أصناف جديدة توفر ثلث المياه التي يستهلكها الأرز التقليدي، وهو ما دفع الحكومة إلى السماح بزيادة المساحة المنزرعة بالأرز إلى مليون و75 ألف فدان.
يقول الدكتور سعيد سليمان، رئيس قسم الوراثة بزراعة الزقازيق، ورئيس مشروع التربية لتحمل الجفاف في الأرز، إن الأرز الجاف ناتج عن تهجين الأصناف المقاومة للجفاف العالمية والمحلية، واُستغرق إنتاجها قرابة 30 عاما، موضحا أنه يحتاج إلى 4 آلاف متر مكعب فقط من المياه، ويعطي إنتاجية تتفوق على الأصناف الحالية، التي تستهلك قرابة 7 آلاف متر مكعب.
يضيف سليمان، أن إنتاجية الأرز الجاف تصل لـ4 أطنان للفدان، لكنه يحتاج إلى استخدام طرق الزراعة المبتكرة، ويقصد بها تقسيم الأرض إلى شرائح، التي تؤدي إلى توفير كمية المياه المستهلكة، مؤكدا أن الصنف الجديد يستهلك نصف كمية المياه التي يحتاجها الأرز التقليدي، كما أنه لا يحتاج للري إلا مرة واحدة كل 10 أيام، علاوة على الإنتاجية المرتفعة، ما يترتب عليه مضاعفة كميات الإنتاج المحلي من محصول الأرز الاستراتيجي، وهو ما يقلص الجهد اللازم من أبوزيد لرعاية المحاصيل، علاوة على خفض تكلفة الإنتاج.
وأشار إلى أن هذه السلالة تمتاز بجودة غذائية عالية، وجودة طهي متميزة، تفوق الصنف التقليدي أيضا، ما يبشر بإمكانية أن تحقق مصر الاكتفاء الذاتي من الأرز وتتوقف عن الاستيراد، لافتا إلى أن لزراعة الأرز فائدة إضافية فهو يحافظ على الأرض ويطهرها، ويغسلها من تراكم الأملاح بها، والأراضي في حاجة لعودة زراعة الأرز كبديل للفيضانات، فلولا زراعة الأرز لبارت معظم الأراضي، جراء ارتفاع نسبة الأراضي المالحة خلال الآونة الأخيرة لـ47%، ولولا زراعات الأرز لبار أكثرها.
الساليكورنيا.. خضار وعلف وزيوت
بدأت محافظة البحر الأحمر، نهاية 2018، في زراعة نبات الساليكورنيا، الذي يروى بمياه مالحة، ويمكن استخدامه خضارًا وعلفًا ووقودًا حيويًّا، بالتعاون بين المركز الدولي للزراعة الملحية "إكبا"، ووزارة الزراعة المصرية، بعد نجاح تجارب المركز لزراعته في دولة الإمارات.
وقد نجحت التجربة التي بدأت قبل 3 سنوات، عبر زراعة 4 أفدنة، في منطقتي القلعان بمدينة مرسى علم، والأخرى جنوب رأس غارب، ويتم استخدامه كعلف للماشية حتى الآن، ويشكل الساليكورنيا فائدة عالية للمزارعين الموجودين في المناطق المتاخمة للبحار والمحيطات.
يقول رئيس الجهاز التنفيذي لمشروعات التنمية الشاملة بوزارة الزراعة علي حزين، إن الوزارة تخطط للاستفادة من هذا النبات في مشروعين: الأول توظيف مياه المزارع السمكية في ريه، وهي المزارع الجاري إنشاءها حاليًّا جنوب رأس غارب على مساحة 4 آلاف فدان، والثاني استخدامه علفًا بعد خلطه مع أعلاف من نباتات أخرى، لتغذية الحيوانات المستوردة من السودان عبر منفذ رأس الحديدة على الحدود المصرية السودانية، والتي تبقى قرابة شهر ونصف في المنفذ حتى انتهاء إجراءات الحجر البيطري.
ويثني أستاذ الموارد المائية واستصلاح الأراضي بكلية الزراعة بجامعة القاهرة، نادر نور الدين، على التوجه الحكومة نحو المصادر الجديدة للأعلاف، مؤكدًا أنه يساعد في علاج مشكلة القمح في مصر، حيث يزرع في مصر 2.5 مليون فدان من القمح، في الوقت الذي يزرع فيه 3.5 مليون فدان بالبرسيم، لتلبية احتياجات الثروة الحيوانية، وعند التوسع في زراعة الساليكورنيا تستبدل المساحات المنزرعة بالبرسيم بالقمح، وتصبح الخطوة الأكبر في طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح في مصر.
يضيف نور الدين، أنه علاوة على توفير الساليكورنيا لمساحات شاسعة من الأراضي، فهو لا يحتاج لمياه عذبة لريه، فهو يعتمد على المياه المالحة، ومن المتوقع أن تعمم الحكومة زراعته بالمحافظات الساحلية مستقبلا، آملا أن تُعظم الاستفادة منه ليصبح ضمن مكونات طبق السلطة، كما يحدث في بعض دول الغرب، أو إنتاج الزيوت الغذائية منه، حيث يصل محتوى الساليكورنيا من الزيت إلى حوالي 30% تقريبًا من إجمالي وزن النبات الكلي، وهي نسبة كبيرة إذا ما قورنت ببذور غيرها من النباتات.
جهود مستمرة لتحقيق الزراعة المستدامة
وتيسيرا على أبوزيد وأقرانه من المزارعين في مختلف محافظات مصر، أصدرت وزارة الزراعة، قرارها رقم 79 لسنة 2018، بتحديد 53 صنفا من تقاوي أصناف بعض المحاصيل الاستراتيجية الموفرة للمياه، التي تتأقلم مع الظروف البيئية والمناخية المتباينة، بينها 7 أصناف من الأرز، و11 صنفا من الذرة البيضاء، و12 صنفا من الذرة الصفراء، و15 صنفا من القمح، و8 أصناف من الفول البلدي.
وتنفذ وزارة الزراعة، ممثلة في مركز التميز للزراعات الملحية بمركز بحوث الصحراء، مشروعا بالتعاون مع المركز الدولي للزراعات الملحية بدولة الإمارات، لإنتاج بذور المحاصيل المتحملة للملوحة والمتأقلمة مع الظروف المناخية الزراعية في مصر.
بدأ المشروع في عام 2015، ويتم خلاله تقييم أكثر من 500 سلالة وراثية تتبع أكثر من 15 نوعا من المحاصيل العلفية والمحاصيل الحقلية في ظل ظروف الإجهاد في سيناء، ومناطق غرب القناة وفي الوادي الجديد.
من جانبه يؤكد الدكتور حسين الشاعر، مدير مركز التميز للزراعات الملحية، إن المشروع يستهدف سلالات وأصنافا أكثر إنتاجية وتحملا للملوحة، مثل الشعير والتريتيكال والمحاصيل العلفية مثل الدخن اللؤلؤي والذرة الرفيعة، وغيرها من المحاصيل ذات القيمة العالية، مثل الكركم والكينوا وعدد آخر كبير من المحاصيل غير التقليدية.
وأضاف الشاعر، أن هذه المحاصيل أظهرت قدرتها على تعزيز إنتاجية الأراضي والثروة الحيوانية بنسبة تزيد على 30 في المائة فضلًا عن توفيرها للمياه، وهو ما يشجع على التوسع في زراعتها بأكثر من منطقة، حيث يعد هذا التوجه ضرورة لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري وتراجع كميات المياه العذبة.
الابتكار والتكنولوجيا ضرورة حتمية
من جانبه يؤكد الدكتور حسام محرم، مستشار وزير البيئة سابقا، أن الأمن الغذائي المصري بات يشكل هدفًا استراتيجيًا تسعى الدولة لتحقيقه خلال السنوات المقبلة، فمصر من قديم الأزل من الحضارات النهرية التي نشأت على ضفاف نهر النيل، لذلك فقطاع الزراعة عامود الاقتصاد المصري منذ القدم، وباتت الزراعة المستدامة التي تراعي البعد البيئي ضمن أجندة الحكومة حتى تحفظ للوطن موارده الزراعية، وتراعي حق الأجيال المقبلة في هذه الموارد، خاصة في ظل أزمة الفقر المائي التي تمر بها مصر، علاوة على تبعات جائحة كورونا على العالم، وكان بينها ضرورة تأمين المخزون الغذائي الاستراتيجي.
وأضاف محرم، أن اهتمام الحكومة بملفي المياه والزراعة تزايد خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تمثل ذلك في تعديل التشريعات لضمان فعالية أفضل للتعامل مع الأزمة، واستخدام المحاصيل الملحية أو الأقل شراهة للمياه، علاوة على بدء اعتماد سلالات جديدة موفرة للمياه، وتنمية البحث العلمي في هذا الجانب لتحقيق أقصى استفادة ممكنة، مؤكدا أننا بحاجة لطرق زراعية متكاملة وتوظيف التكنولوجيا، وتشجيع الابتكار والتطوير في المجال الزراعي، بما يتناسب مع البيئة والمناخ الصحراوي وندرة الموارد المائية التي نعاني منها الآن ومستقبلا.
وأشار إلى أن تحدي الأمن الغذائي والمائي ما زال قائما ومهددا للأمن والاستقرار القوميين، خاصة في ظل التغيرات المناخية المتفاقمة، التي ستطرح تحديات إضافية في هذا الملف، وهو ما يقتضي زيادة الاعتماد على البحث العلمي لوضع سياسات رشيدة للنجاح في مواجهة هذه التحديات الجسيمة.
تشكل الاستراتيجية الجديدة التي تطبقها الحكومة المصرية تحديا أمام أبوزيد وأقرانه، في ظل تراجع دور قطاع الإرشاد الزراعي ونقص أعداد المرشدين الزراعيين، حيث تخلو 7 آلاف جمعية زراعية على مستوى الجمهورية من المرشدين الزراعيين، إضافة لنقص الثقافة الزراعية لدى أكثرية المزارعين، واعتمادهم على الزراعات التقليدية.. لكنها خطوة ضرورية على طريق تحقيق الزراعة المستدامة.
تم إعداد هذا التحقيق ضمن مبادرة MediaLab Environment، مشروع للوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام CFI.