أهمية أن نتثقف يا ناس
"سوف نتحول إلى مجتمع جاهل، وإن كان بعضه بالشهادة متعلمًا، مجتمع غير واعٍ أو مدرك، أي غير مثقف، مجتمع ليس له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم، وتدافع عنها، وتدعو إليها. مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلامًا وخمولًا من السماء الملبدة بالغيوم".
تلك بعض جوانب نبوءة الراحل الدكتور يوسف إدريس عن التحولات المتوقعة في المجتمع المصري، وعن وضعية الصفوة المتعلمة والمثقفة فيه، وقد عرض لها في مقال شهير نشره بجريدة الأهرام في يوليو 1984، تحت عنوان "أهمية أن نتثقف يا ناس".
أثار هذا المقال جدلًا كبيرًا بعد نشره، وغضبًا من مؤسسة الثقافة الرسمية، وعلى رأسها وزير الثقافة في ذلك الوقت الدكتور عبد الحميد رضوان، الذي كتب بدوره مقالًا بجريدة الأهرام بعنوان: "مصريتنا حماها الله"، هاجم من خلاله شخص ورؤية ودعوة الراحل الدكتور يوسف إدريس.
فما هي حكاية هذا المقال الشهير، والمعركة التي أثارها؟
وكيف يمكن النظر اليوم إلى نبوءة يوسف إدريس للمجتمع والنخبة المصرية، بعد أكثر من أربعة عقود على كتابة ذلك المقال؟
بداية، كان الدكتور يوسف إدريس يهدف من هذا المقال إلى لفت نظر السلطة إلى أبعاد مؤامرة تحاك ضد العقل المصري، وتهدف إلى شل عقل المصريين عن التفكير، وتشجيع التسيب وعدم الانضباط في سلوكهم، وإشاعة الفوضى والتشوه في حياتهم ومجتمعهم.
وقد ذكر في مقاله أن المصريين شعب يُقدس المعرفة والثقافة. وهو أيضًا شعب متحضر وعميق الصلة بالقيم الثقافية والحضارية العليا. وأن أكبر دليل على ذلك هي المكانة الكبيرة التي رفع لها المصريون شخصيات فكرية وثقافية وأدبية مثل طه حسين وعباس محمود العقاد، وأحمد حسن الزيات، والمازني، وتوفيق الحكيم، وحسين فوزي، وأحمد أمين، ونجيب محفوظ، وزكي نجيب محمود، وغيرهم من المفكرين والأدباء.
ثم لفت الدكتور يوسف إدريس الانتباه إلى حدوث تحوّل مرضي في المجتمع المصري، كان من نتيجته أن انقلب موقف المصريين من الثقافة والمثقفين رأسًا على عقب. وبمقتضى هذا الانقلاب أصبحت كلمة "مثقف" تُقال من أجل التوبيخ والاستهزاء، وصارت كلمة "ثقافة" يتأفف لدى ذكرها الكثير من أهل الحكم والبسطاء.
وقد أرجع بدايات هذا التحول في موقف المصريين من الثقافة والمثقفين، إلى أعقاب قيام ثورة يوليو 1952، التي دفعت بقطاع عريض من أبناء "الطبقة الوسطى الدنيا" إلى صدارة المشهد الثقافي والسياسي، بعد أن كانت مهمشة.
وقال: إن ثورة يوليو التي وفرت لهؤلاء فرص التعليم المجاني، وفتحت لهم أوسع المجالات للكسب المادي والصعود الطبقي، لكنها لم توفر لهم موارد الثقافة الحقيقية التي تنمي فكرهم ووعيهم، وتصنع منهم كائنات إنسانية متحضرة، تجمع بين الرقي الاجتماعي والاقتصادي والرقي الإنساني والسلوكي والفكري.
ورأى يوسف إدريس أن هذا التحول المرضي اكتمل وبلغ مداه مع بداية فترة "الانفتاح الاقتصادي" في زمن حكم الرئيس محمد أنور السادات، وهي الفترة التي حلت "صواميل" المجتمع، وفُتحت الباب لـ "ثقافة الفهلوة"، وصارت معها "روح الشعب الثقافية" وديعة غير محافظ عليها في أيدي القطاع الخاص، الذي أحال المسرح إلى كباريه، وأحال مسلسلات التليفزيون إلى وسيلة لإنقاص وزن العقول والاستخفاف بها.
كما أشار الدكتور إدريس إلى أن تلك الفترة شهدت أيضًا، موت دور الكِتاب وموت المجلات الثقافية والعلمية، وتحوُّل الجامعات من دور للثقافة العليا إلى مدارس متوسطة يتخرج فيها أنصاف حرفيين بدرجة بكالوريوس وليسانس.
ثم ختم مقاله بهذا السؤال: هل ليست لدى حكومتنا اليوم إمكانيات ثقافية متاحة لإفشال تلك المؤامرة التي تحاك ضد الإنسان والعقل المصري، وترفع المستوى الثقافي لشعبنا، وتزيد في مستوى وعيه النقدي، وقدرته على الإدراك والتمييز والحكم؟
وكانت إجابته: نعم لدينا إمكانيات كثيرة مثل مؤسسات الثقافة والإعلام الحكومي، وعلى رأسها التليفزيون والإذاعة والصحافة والمسارح والمطابع والهيئة العامة للكتاب والمجلس الأعلى للثقافة، لكن هذه الإمكانيات مُهدرة نتيجة شيوع السلبية وانعدام الضمير وقلة القيم، وتفشي الفساد والمحسوبية، والارتجال في المشروعات والحلول.
تلك خلاصة المقال الشهير للراحل الدكتور يوسف إدريس، الذي كتبه منذ أكثر من أربعة عقود ليُحذر ويقول إن المجتمع المصري ينحدر ثقافيًا، ومن ثم سلوكيًا وأخلاقيًا بدرجة خطيرة، وإن الغوغائية تسود حياتنا، وإننا ذاهبون إلى كارثة محققة إن لم نجعل رفع المستوى الفكري والثقافي للشعب المصري أولوية قصوى.
ويمكن القول إن تلك النبوءة، قد تحققت إلى حد بعيد، وأننا عشنا في العقدين الأخيرين حاصة في أجواء "الكارثة الفكرية والثقافية" التي حذرنا منها الدكتور يوسف إدريس، وشاهدنا ولا نزال نُشاهد تجلياتها في كل ما حولنا من تشوهات وأمراض فكرية وثقافية وفنية وسلوكية، وتزييف وإفساد للوعي.
وهذا الحال الذي انتهينا إليه، يجعل دعوة يوسف إدريس، وصرخته القائلة "بأهمية أن نتثقف يا ناس" أكثر حضورًا وأهمية في مرحلتنا الراهنة، التي نُعيد فيها بناء مؤسسات واقتصاد الدولة المصرية، ونُعيد بناء الإنسان المصري وثقافته ووعيه؛ فهل تجد دعوة الدكتور يوسف إدريس اليوم آذانا مُصْغِية؟