رواية "ساق البامبو" لــ سعود السنعوسي بين الهوية ورفض المجتمع
تمثل رواية "ساق البامبو" الصدمة النصية لجمهور القراء؛ لأنها تكشف المشاكل والعوائق المجتمعية في المنطقة العربية، صحيح أن أحداث الرواية تدور في دولة الكويت، لكن في كل دولة عربية عائلة تُسمى "الطاروف"، التي تشكل قوانين صغرى مقابل قوانين وضعتها الدولة الكبرى.
الرّواية تتدور عن شخصيّة بطلها "هوزيه" باللغة الفلبينية، أو "عيسى"، الاسم الذي يعني في الفلبين ويعني لدى العرب اسم نبي الله، يُولَد في الكويت لأبٍ كويتيّ هو "راشد"، وأم فلبّينيّة هي "جوزافين"، التي هي خادمة في بيتِ سيدها "راشد" والسيدة الكبيرة "غنيمة"، التي تشكل ركام العادات والتقاليد في بيتها الكبير، أما عن سيدها فقد أصبح زوجها فيما بعد.
تتزوج "جوزافين" عرفيًّا من "راشد"، فتعترف الدولة بهذا الزواج وينكره المجتمع والعائلة، ينتج عنه إنجاب "عيسى"، الشخصية التي حملت في باطنها ووعيها جميع قضايا الكاتب الفكرية.
تنقسم الرواية إلى عدة فصول، مع بداية كلّ فصل مقولة سهلة تشكل المعيارية ومنبت الخبرة لــ "عيسى" التائه في زحام البحث عن الذات، وفي الحقيقة كلنّا هذا البطل. الجزء الأول: "لا يوجد مستبدون؛ حيث لا يوجد عبيد"، للكاتب الفلبيني "خوسيه ريزال"، الذي لم أكن أعرف عنه إلى أن توصلت بعد بحث طويل على الشبكة العنكوبتية إلى بعض المعلومات، وهو: "عالم ووطني وروائي فلبيني، وكان الشخص الرئيسي الذي ساهم في تأسيس الفلبين أثناء عهد الاستيطان الإسباني.جاءت الثورة بعد إعدامه.."، ويدل ذلك على دراية "السنعوسي" بملامح الشخصية التي يكتب عنها، وتفاعله معها؛ لأنه اقترب من معاناة شعبها وثقافته، فكتب بكلِّ انسيابية عن قناعاته.
الجزء الثاني: "عيسى بعد الميلاد"، إن الذي لا يستطيع النظر وراءه إلى المكان الذي جاء منه لن يصل إلى وجهته أبدًا"، ويستفيض الكاتب في عرض الشخصيات المحيطة بالشخصية المحورية "أي الشخصيات الثانوية"، فظهرت شخصية الجدّ "ميندوزا"، وحياة الفقر، ومقامرته لجني المال "مقامرة الديوك"، ووصف الحياة ووضعها بطريقة مُنمقة داخل البناء السردي، جعل النص حيًا وصريح التجسيد؛ لأنه أوضح القارئ داخل الورقة الروائية، منها تحول القارئ إلى "قارئ متخيل" يشعر بما يدور في ذهن ووعي الكاتب، بل ويتعايش مع الشخصيات حياة المُكابدة، مرة أخرى يأخذنا إلى شخصية "آيد" خالة "عيسى" وتجارة الجسد، ويعرض العُهر المجتمعي وإنجابها لــ "ميرلا" على يد مغتصب أوروبي لا للوطن فقط ولكن للجسد، ومنها نستشعر أن اختلاف البقعة الجغرافية لا يعني تباين الأزمات، ومنها إلى حياة الجد خلال فترة الحرب القادرة على تغيير حياة الإنسان، كان التحول منطقيًا بعد ذكر حرب عام 1966م، الفترة التي تحالف فيها جيش الفلبيني آنذاك مع كوريا، وتايلاند، وأستراليا، ونيوزلاندا ضد الفيتنام.
الجزء الثالث: "رحلة البحث عن الله"، رحلة بحث "عيسى" عن الله؛ ليجده في القلب، فهو لم يجد دينًا يمثله؛ نتيجة إهمال الأم لوضع بذرة الإيمان داخله، لكنه لا ينكر وجود الله، مرددًا مقولة "خوزيه ريزال"؛ حيث قال: "الشك في الله يعني الشك في ضمير المرء، وهذا يؤدي إلى الشك في كل شيء"، وسمى الكاتب الفصل بــ "عيسى التيه الأول"، وهنا يذكرني الكاتب بالرؤية النقدية لـ "جيروم برنر" قائلًا: "السيرة الذاتية نطرح فيها ذاتنا، وأفعالها، وتأملاتها، وأفكارها، ومكانها في العالم... إن تأملاتي ليست افتراضية تمامًا"، وظهر التأمل على لسان الشخصية خلال رحلة البحث عن القناعة الدينية قائلًا: "لكل منا دينه الخاص، نأخذ من الأديان ما نؤمن به، ونتجاهل ما لا تدركه عقولنا، أو نتظاهر بالإيمان، ونمارس طقوسًا لا نفهمها؛ خوفًا من خسارة شيء نحاول أن نؤمن به..".
أمَّا عن الجزء الرابع: "عيسى التيه الثاني.. تسلط البعض لا يمكن حدوثه إلا عن طريق جبن الآخرين"، رحلة "عيسى راشد عيسى الطاروف" إلى منزل "الطاروف"، وعدم تقبل الآخر، لا في الاسم، لكن في الشكل، أضف إلى ذلك العرق، والقبيلة، والنبذ، والبداية كانت في "مطار الكويت"، وهي مرحلة التصنيف: "واحدًا تلو الآخر يختم الموظف على جوزات سفرهم إلى أن جاء دوري، دسست كفي في جيب البنطلون، وقبل أن أخرج منه الجواز، صرخ بي الرجل بطريقة فظة صعقتني.. أشار بيديه نحو الطابور الآخر؛ حيث يقف الفلبينيون..".
شخصية "غسان" التي يعرض فيها "قضية التجنيس"، وهي قضية زوجات الكويتيين الخليجيات، وغير محددات الجنسية "البدون". وتعد قضية الجنسية في الكويتمن أكثر القضايا الشائكة، وقد عرضها الكاتب بطريقة جذابة، تمثلت فيها كل ملامح الإنسانية والإيمان، بوصفها قضية ظالمة للإنسان، شخصية "غسان" هي الشخصية المقابلة لشخصية "عيسى"؛ لأنه مقبول لدى الدولة بالأوراق، مرفوض بالنسبة للمجتمع، أمَّا "غسان" مرفوض بالورق مقبول بالشكل.
شخصية "هند" عمة "عيسى"، التي تدافع عن قضية "غسان وعيسى" وعن حقوق الإنسان، إضافة إلى ذلك دور المرأة في مجتمع الخليج العربي. و"نورية" المتسلطة، التي تمثل دور الشر المجتمعي والزيف ورفض الآخر المختلف عنها، والاختلاف لدى الكاتب لا يعني الشكل فقط، لكن الدين، والشكل، والعرق، واللون. أمًّا العمة "عواطف" فهي الإيمان الكاذب المبني على أرضية مهتزة غير صلبة، ويأتي وصف "عيسى" لرفضهم له قائلًا: "حاولت أن أختزل وطني في أشخاص أحبهم فيه، ولكن الوطن في داخلهم خذلني..."، وفي كل مرة كان ينهزم فيها "عيسى" وجد أخته "خولة" من أبيه السند والدعم.
إن السرد في الرواية قائم على منطق خطابي، ونسيج حقيقي ومكثف بالتفاعلات الرمزية منها إلى عنوان "ساق البامبو"، اسم الرواية الذي يُشير إلى رحلة البحث في حياة "عيسى": "لو كنت مثل نبتة البامبو لا انتماء لها تقتطع جزءًا من ساقها.. نغرسه بلا جذور في أي أرض، لا يلبث الساق طويلًا حتى تنبت له جذور جديدة تنمو من جديد في أرض جديدة، بلا ماضٍ، بلا ذاكرةٍ، لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. "كاوايان" في الفلبين، و"خيرزان" في الكويت، أو "بامبو" في أماكن أخرى".
وفي الفصل الخامس يحدث الرفض من "عيسى" لـ "حياة ليست مكرسة لهدف، حياة لا طائل من ورائها، هي كصخرة مهملة في حقل، بدلًا من أن تكون جزءًا من صرح"، منها إلى النهاية العودة إلى الفليبين الوطن المُتقبل لــ "عيسى": "إن لفظت الديار أجسادنا قلوب الأصدقاء لأرواحنا أوطان".
اقتباسات عميقة تشكل وعي القارئ:
- "الغياب شكل من أشكال الحضور، يغيب البعض وهم حاضرون في أذهاننا أكثر من وقت حضورهم في حياتنا".
- "تمضي السنون... نكبر وتبقى الأحلام في سنها صغيرة.. ندركها.. نحققها، وإذ بنا نكبُرها بأعوامٍ، أحلام صغيرة لا تستحق عناء انتظارنا طيلة تلك السنوات. العطاء من دون حب لا قيمة له. الأخذ من دون امتنان لا طعم له هذا ما اكتشفته".
- "كلما شعرت بالحاجة إلى شخص يحدثني فتحتُ كتابًا".
- "نأتي صدفة من دون نية مسبقة من آبائنا وأمهاتنا، أو بنية يلحقها تخطيط وتوقيت. لو أننا نستحضر من العدم، إن كنا حقًا هناك قبل، أن تُبث أرواحنا في الأجنة في الأرحام، يعرض أمامنا رجال كثير ونساء نختار من بينهم آباءنا وأمهاتنا، وإن لم نجد من يستحقنا.. للعدم نعود".
إن رواية "ساق البامبو" حائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2013، لكنّها تستحق جائزة الرواية الإنسانية.. شكرًا لهذه الرحلة الممتعة إلى الفليبين، ومنها إلى الكويت.
شكرًا "سعود السنعوسي".