الفضائيات تصيب المصريين بمضاعفات طبية وعاهات مستديمة
لم تدرك رحاب 20 عاما أن آلاما بسيطة بغشاء المعدة المخاطي سيكون وبالا عليها، ويسبب لها العمى، على يد طبيب كان دائم الإعلان عن منتجاته "السحرية" التي تعالج جميع الأمراض.. معاناة رحاب بدأت بإعلان شاهدته والدتها على إحدى الفضائيات للطبيب الشهير، يتحدث فيه عن أحد منتجاته التي تعالج جميع الأمراض، فطلبت من زوجها أن يعرض ابنتهما الوحيدة عليه، لعل علاجها يكون على يديه.
رحلة سفر استغرقت أكثر من 10 ساعات، خاضتها الأم وابنتها من قنا إلى القاهرة لمقر عيادة الطبيب الشهير، بعد الفحص أكد الطبيب أن رحاب مصابة بميكروب، وكتب لها وصفة علاج عشبي لن تجدها إلا في منفذ يبيع منتجاته، تكلفة الجرعة الواحدة 3 آلاف جنيه.. بعد فترة من العلاج أصيبت رحاب بالتهاب في عصب العين، فقدت على إثره النظر، وأكد أطباء مستشفى نجع حمادي إصابتها بتسمم شديد.
حللت مستشفى جامعة سوهاج وصفة العلاج التي تناولتها رحاب، ورصدت احتواءه على مخدر وكحول الإثينول.. طبيب عيون بمستشفى كبرى أكد لأسرة رحاب أن وصفة الدواء المجهولة أحدثت ضررا بالغا بعصب العين، وأكد طبيب عيون في ألمانيا نفس الأمر بعد اطلاعه على الفحوصات الطبية الخاصة برحاب.
رحاب واحدة من آلاف المصريين الذين حدثت لهم مضاعفات طبية خطيرة أو عاهات مستديمة، بعد حصولهم على وصفات طبية مجهولة المصدر، وغير مرخصة من وزارة الصحة والسكان، بعد ظهورها على الفضائيات المصرية، خلال فقرات الإعلان أو عبر برامج طبية.
بدورها تعرضت ميرفت يوسف لمضاعفات طبية كبيرة، نُقلت على أثرها إلى المستشفى، جراء حصولها على حقنة "سم النحل"، بعدما ذهبت لعيادة طبيب شهير دائم الإعلان عن منتجاته ووصفاته عبر الفضائيات، عُرضت ميرفت على مساعد الطبيب، ورشح لها العلاج بـ "سم النحل"، أجرت ممرضة بالعيادة اختبارا لها باستخدام نصف ملي من سم النحل، وبعدها أعطتها 10 حقن، ومجموعة أخرى من الأعشاب والأدوية، بسعر إجمالي تعدى الـ5 آلاف جنيه.
الفضائيات هي النافذة التي وصلت عن طريقها الوصفات الطبية غير المرخصة إلى رحاب وميرفت، عن طريق الإعلانات المعروضة بشكل دائم على غالبية الفضائيات التي تدخل كل بيت في مصر.
الفضائيات تروج لوصفات طبية مجهولة المصدر
"القاهرة 24" أجرت جولة عبر شاشات بعض الفضائيات لتتبع هذه الإعلانات، ومحتواها، وهل هذه الوصفات مرخصة من قبل وزارة الصحة أم لا؟. بدأنا بفضائيات الصف الثالث والفضائيات المتخصصة في عرض الأفلام والمسلسلات، ورصدنا 3 فضائيات اخترناها بشكل عشوائي، وهي: "صوت العرب، Otlob Aflam، والساعة اليوم"، لمدة ساعة لكل منها.
رصدنا فضائية "صوت العرب" لمدة ساعة، وجدنا أنه خلال الساعة أعلنت القناة عن 3 وصفات طبية مجهولة المصدر، وغير مصرح باستخدامها من وزارة الصحة والسكان، هي: "ب. هـ." وقد ادعت أنه مكمل غذائي لعلاج مرض السكر والمضاعفات الناتجة عنه، مؤكدة أنه يقضي على السكر خلال ٤٥ يوما فقط.
والإعلان الثاني عن "ب. م." وهي وصفة ادعت القناة أنها تعالج خشونة الركبة وآلام العمود الفقري وآلام المفاصل، ويتكون من كريم واسبراي، وتحدث طبيب عن فوائد المنتج وادعى أنه حاصل على شهادة الأيزو ٣٠٠١، ومصرح باستخدامه من وزارة الصحة، ولم يذكر رقم التسجيل الخاص به على الشاشة.
وتكرر الإعلان عن المنتجين السابقين مرتين لكل منهما خلال الساعة الواحدة، بالإضافة إلى إعلان عن وصفة ثالثة، وهي عبارة عن نوع من العسل لعلاج الضعف الجنسي عند الرجال، وعلاج أحد مسببات عدم الإنجاب.
أما فضائية otlob aflam فقد عرضت 4 وصفات طبية غير مصرح باستخدامها من قبل وزارة الصحة، بالإضافة لبرنامج طبي لشخص ادعى أنه أخصائي معتمد من وزارة الصحة في العلاج بالأعشاب، تحدث خلاله عن فوائد العلاج بالأعشاب، ووصفة أطلق عليها "ك." ادعى أنها الأفضل في علاج الأمراض المناعية بشكل فعال، وبعد دقائق أذاعت القناة أغنية لهذا المنتج بصوت فنانة شعبية شهيرة.
وأعلنت القناة عن وصفة ثانية مستخلصة من عنب الدب للشعر والبشرة، ادعوا أنها تساعد في علاج أمراض جلدية، أما ثالث الوصفات المجهولة فكانت منتج اسمه "ج." ادعت أنه يقوي الذاكرة ويزيد التركيز، ثم أعلنت عن وصفة "م. أ." وهي مخصصة لتخسيس الأشخاص.
أعادت القناة 3 من هذه الإعلانات على مدار الساعة، بالإضافة إلى ظهور مجموعة أشخاص ادعوا أنهم استخدموا منتجات هذا الأخصائي وحصلوا على نتائج إيجابية، وبعدها ظهر إعلان يطلب فيه هذا الأخصائي وكلاء لمنتجاته من مختلف المحافظات، وأعيد الإعلانان السابقان مرتين، خلال ساعة.
واحتوى الشريط الإعلاني للقناة إحدى وصفات هذا الأخصائي، وادعى قدرتها الفائقة على علاج مجموعة من المشاكل الصحية.
أما قناة الساعة اليوم، فقد أعلنت عن 3 وصفات طبية غير مرخصة من وزارة الصحة، الأولى "ك." وادعت القناة أنها الأفضل في علاج الأمراض المناعية بشكل فعال، وظهر فيه أخصائي لشرح فوائده، وأحد مستخدمي هذه الوصفة الطبية، والوصفة الثانية كانت كريم "س. م." المُخصص لعلاج التهابات المفاصل والعظام، وظهرت خلاله الممثلة "هنود"، ثم أشخاص ادعوا أنهم حصلوا على نتائج إيجابية من استخدام الوصفة، تلاها الإعلان عن وصفة اسمها "ب. ف." وهي وصفة تستخدم لعلاج السمنة، ظهرت فيها الممثلة نورا السباعي، وادعت أن سرق فقدانها الوزن كان جراء استخدام هذه الوصفة، وقالت إنه مصرح باستخدامه من وزارة الصحة، رغم عدم ظهور تنويه على الشاشة بذلك.
وتكرر ظهور الإعلانات السابقة مرتين، خلال الساعة، عدا وصفة السمنة الأخيرة.
رحاب وميرفت وقعتا ضحيتين لهذه الوصفات مجهولة المصدر وغير المصرح باستخدامها من وزارة الصحة، ودون هذه الإعلانات ما تضررتا طبيا وحدثت لهن هذه المضاعفات الحرجة.. شقيق رحاب حاول التواصل مع عيادة الطبيب الذي تلقت عنده رحاب هذه الوصفة، لكنهم أغلقوا الخط في وجهه ورفضوا التواصل معه، بينما كان زوج ميرفت أوفر حظا، فقد أعادت له العيادة سعر الحقن غير المستخدمة، وبنما رفضت إعادة ثمن الوصفات المستخدمة بحجة أنها فتحته واستخدمته.
لم يتوقف الأمر على فضائيات الصف الثالث، بل امتد إلى فضائيات الصف الأول، ولكن الأخيرة أكثر تنظيما في هذا، إذ تُخصص هذه الفضائيات فقرات إعلانية يظهر فيها أشخاص متخصصين وغير متخصصين للحديث عن بعض الوصفات الطبية، وطرق التعامل مع بعض الأمراض.
118 مليار جنيه سنويا
وكشف محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، أن كبرى الفضائيات المصرية تُذيع إعلانات أو فقرات طبية مع متخصصين أو غير متخصصين في فقرات مدفوعة الأجر لضيوف مكررين بشكل يومي، بغرض الترويج لأدوية تخسيس، يدخل في تصنيعها مادة ضارة جدا بالصحة، وسببت حالات وفاة ومضاعفات طبية خطيرة من قبل.
وقال لـ القاهرة 24، أن ما يحدث هو تلاعب بصحة المصريين، فأكثر من 63 فضائية تعلن عن منتجات طبية مجهولة المصدر، دون رقابة أو متابعة من الجهات المعنية، مؤكدا أنهم يستغلون المصريين الذين ينفقون سنويا ١١٨ مليار جنيه مصري، ٦٨٪ من هذا الرقم من جيوب المواطنين، حسب تقرير البنك الدولي ٢٠٢٠.
مخالفات لآداب مهنة الطب
وحظرت لائحة آداب مهنة الطب، الصادرة بقرار من وزير الصحة رقم 238 لسنة 2003 بتاريخ 5 سبتمبر 2003، في الباب الثاني مادة "8"، الأطباء من السماح باستعمال أسمائهم في الترويج للأدوية والعقاقير، أو لأي أغراض تجارية على أي صورة من الصور، بالإضافة إلى حظر إجراء استشارات طبية عبر الاتصالات الهاتفية.
وتخالف البرامج الطبية أو ما يتخلل البرامج المختلفة من إعلانات طبية، لائحة آداب المهنة في مادتيها 10 و19، إذ تستضيف هذه الفضائيات الأطباء للترويج عن أنفسهم بذكر أسمائهم وعناوين عياداتهم وطرق التواصل معهم، نظير مقابل مادي يدفعه الأطباء، وهو ما يخالف مادة 10 التي تنص على "لا يجوز للطبيب أن يقوم بالدعاية لنفسه على أي صورة من الصور، سواء كان ذلك بطريق النشر أو الإذاعة المسموعة أو المرئية أو عبر وسائل الإنترنت أو أي طريقة أخرى من طرق الإعلان.
وحددت مادة 19 من لائحة آداب المهنة القواعد التي يلتزم بها الطبيب عند مخاطبة الجمهور في البرامج الطبية، وتتمثل في 3 بنود: أولها تجنب ذكر الطبيب مكان عمله وطرق الاتصال به، وعدم الإشادة بخبراته أو إنجازاته العلمية ويكتفي فقط بذكر صفته المهنية ومجال تخصصه، وأن يخاطب الجمهور بأسلوب مبسط يلائم المستمع أو المشاهد غير المتخصص، وتجنب ذكر الآراء العلمية غير المؤكدة أو غير المقطوع بصحتها.
وتحظر مادة 9 من لائحة آداب المهنة، على الطبيب تطبيق طريقة جديدة للتشخيص أو العلاج إذا لم يكن قد اكتمل اختبارها بالأسلوب العلمي والأخلاقي السليم، ونشرت في المجلات الطبية المعتمدة وثبتت صلاحيتها، وتم الترخيص بها من الجهات الصحية المختصة.
الرقابة غائبة
وقال الدكتور أسامة عبد الحي، وكيل النقابة العامة للأطباء، إنه طبقا لنص المادة 18 من الدستور، فإن وزارة الصحة هي المعنية بالرقابة على الإعلانات الصحية، وأن النقابة تمارس دورها حال تلقيها شكوى ضد طبيب حال تجاوزه آداب المهنة، ولكن الدور الرئيسي في مراقبة ومتابعة هذه الوصفات مجهولة المصدر وغير المرخصة، هي إدارة الصيدلة والمنتجات الصحية التابعة لوزارة الصحة، ثم المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
وأكد عبدالحي لـ القاهرة 24، أن النقابة عقدت عدة لقاءات مع رئيسي المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام السابق والحالي، واتفقا على تنظيم ظهور الأطباء عبر الفضائيات، وشدد أنه ينبغي على الفضائيات أن تتأكد من كونه طبيبا ومتخصصا في المجال الذي سيتحدث فيه، مشيرا إلى أن الفضائيات تابعة لهيئة الاستثمار وغرضها استثماري في المقام الأول، ما يمنعها من الالتزام ببروتوكول ظهور الأطباء على الفضائيات.
وشدد المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، على ضرورة التزام جميع وسائل الإعلام بأحكام قانون تنظيم الإعلان عن المنتجات والخدمات الصحية الصادر بالقانون رقم 206 لسنة 2017، وضرورة تفعيل القانون فورا من قبل الجهات المختصة والحصول على ترخيص بذلك من اللجنة العليا المختصة بمنح الترخيص بالإعلان عن أي منتج صحي أو خدمة صحية قبل بث الإعلان أو نشره.
وذكر المجلس، في بيان، أن عدم الالتزام بأحكام هذا القانون يعرض الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكتروني إلى المسئولية القانونية ويضعها تحت طائلة لائحة الجزاءات المالية والإدارية التي يوقعها المجلس على المخالفين لأحكام المجلس ونظام عمله.
عقوبة المخالفين
وحددت مادة 7 من القانون عقوبة المخالفين للقرار، "بالحبس مدة لا تقل عن شهر وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تجاوز 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من يعلن أو يسمح بالإعلان عن أي منتج صحي أو خدمة صحية بغير ترخيص بذلك من اللجنة المختصة المنصوص عليها في المادة 3 من هذا القانون، وتكون العقوبة السجن وغرامة لا تقل عن 200 ألف جنيه ولا تزيد على 500 ألف جنيه، إذا ترتب على استخدام المنتج أو الخدمة العلمية المعلن عنها الوفاة أو الإصابة بعاهة مستديمة، ويعاقب بذات العقوبة المسؤول عن الإدارة الفعلية للشخص الاعتباري حال ثبوت علمه بالفعل الإجرامي، ويكون الشخص الاعتباري مسئولا بالتضامن عن الوفاء بما يحكم به من عقوبات مالية وتعويضات، ومع عدم الإخلال بحقوق الغير حسني النية يحكم في جميع الأحوال بمصادرة المنتجات والأموال والأشياء المستخدمة في الجريمة.
والد رحاب وزوج ميرفت لم يتقدما بشكوى أو بلاغ تجاه المسؤولين عن الضرر الذي أصاب ذويهما، فالأول هدده الطبيب المزعوم بعدد من أفراد الحراسة المرافق له، والثاني قال إنه زوجته ذهبت إليه طواعية، فلا حق لها في مقاضاته.