عما تعنيه الصحافة المعمقة.. تحقيق الرمال البيضاء نموذجًا
«الداخلية تلقي القبض على مؤسسي تطبيق الرمال البيضاء»، جملة نطق بها زميلي عماد حسانين نائب رئيس قسم الحوادث في موقع القاهرة 24، انتشلتني من تركيزي، وقطعت حبل أفكاري.. غمرني شعور بالسعادة والانتصار، وشعرت بدفعة من الأدرينالين تنساب داخل جسدي.. فهي لحظة الانتصار.
لا تتكرر هذه اللحظات كثيرًا.. شعور أنك أديت رسالتك وانتصرت لبعض المظلومين، إحساس له بريق خاص، ولا يحدث مصادفة، فخلفه مجهود كبير مني، ودعم أكبر من محمود المملوك رئيس تحرير القاهرة 24، وتميز وتفوق الموقع الذي يشق طريقه نحو الريادة الإعلامية في مصر، بفضل جهود فريق كفء متعاون ومتكاتف كخلية نحل، كلٌ يعرف دوره ويؤديه في صورته الفضلى.
البداية كانت بعد مرور أيام على منتصف يناير، هاتفني صديق وأخبرني عن وقوع قريب له ضحية نصب تطبيق موبايل جمع أموال طائلة من عدد كبير من المشتركين وأغلق التطبيق موقعه على الإنترنت وحُذف من على Google play.. تواصلت مع ضحية وثانية وثالثة وناقشتهم وبحثت طويلًا، حتى تكشفت أمامي كثير من التفاصيل.
التطبيق تقف خلفه عصابة دولية، تفتح التطبيق داخل بلد ما، تُجند مجموعة من المواطنين للعمل معهم، ويجمعون أموال من المشتركين يُسيلونها إلى عملات رقمية بعدها ويهربونها للخارج لأنها الطريقة الوحيدة التي تمنع تتبعهم أو كشف هويتهم، وبعدها يغيرون اسم التطبيق ويفتتحونه في بلد ثاني باسم وشعار جديدين، لكن بنفس التصميم والواجهة وآلية العمل.
أيام قضيتها في البحث وجمع المعلومات والتتبع، حتى وصلت للجزء الأكبر من القصة، وآلية عمل التطبيق، ومن يقف خلفه؟ ولماذا يستخدمون شركات بعينها دون الأخرى؟ وغيرها من التفاصيل حتى كتبت التحقيق ونشرته 23 يناير الماضي، وأضفت البُعد الدولي للقصة، وانفردنا بالقصة كاملة، وأجريت مقابلة مصورة مع أحد محامي الضحايا وشاب وقع ضحية لهذا التطبيق، وخسر بسببه عشرات الآلاف من الجنيهات.
ساعات وانتشرت القصة وتفاصيلها داخل وسائل الإعلام المصرية الأخرى، وانتقلت بعدها إلى وسائل الإعلام الدولية، وكتبت عنها كبرى المؤسسات الصحفية وبعض وكالات الأنباء الدولية، واستعان أكثرهم بما أفصحت عنه من تفاصيل داخل القصة، لكن أحدًا لم يتطرق إلى البُعد الدولي في القضية.. فقط تحقيقي في القاهرة 24.
قبل مرور شهر واحد من نشر التحقيق، أعلنت وزارة الداخلية المصرية القبض على المسؤولين عن التطبيق داخل مصر، وذلك بعد انتشار تقارير بوسائل الإعلام أن التطبيق يقف خلفه عصابة دولية تهرب أموال المصريين إلى الخارج في صورة عملات رقمية.
ولاحقًا كشفت وزارة الداخلية تفاصيل القبض على العصابة، مؤكدة أنها عثرت بحوزتهم على 3 ملايين جنيه و2000 دولار، وأرصدة بنكية قيمتها 20 مليون جنيه، وأصول عقارية بإجمالي 6 ملايين جنيه، وعملات افتراضية بيتكوين بقيمة إجمالية تقترب من 3 ملايين جنيه.
ضبطيات أجهزة الأمن أكدت صحة جميع التفاصيل التي جاءت في التحقيق، والأهم فيها هو طريقة تهريب هذه العصابة الأموال إلى الخارج عبر تحويلها لعملات رقمية مشفرة، فهي الطريقة الوحيدة التي تُمكنهم من التخفي وعدم التتبع دوليا، واستخدموا شبكة محمول بعينها لأنها هي الوحيدة المعتمدة داخل مصر لشراء العملات المشفرة.
بيان وزارة الداخلية الذي أعلنت فيه القبض على مسؤولي تطبيق الرمال البيضاء في مصر، ذكرت فيه نصا أن «الإدارة العامة لمكافحة جرائم رصدت ما تداولته وسائل الإعلام حول عمليات نصب واحتيال إلكتروني والاستيلاء على أموال المصريين، وتهريبها خارج البلاد من خلال تطبيق إلكتروني باسم الرمال البيضاء، فأجريت التحريات وتمت مراقبة التحويلات المالية، وقبضت على مؤسسي التطبيق في مصر»، لم تتطرق أي وسيلة إعلامية أخرى بعد تفجيرنا القضية، لفرضيتنا في القاهرة 24 المتعلق بالبُعد الدولي للقضية وطرق تهريب الأموال التي جُمعت للخارج، فقط نحن، وهذا لا يدع مجالا للشك بأن الوزارة تحركت بعد تحقيقنا وانفرادنا الأول.
الفرضية الأخيرة تُدلل عليها مجموعة أخرى من القرارات والتحركات التي اُتخذت بعد تحقيقات نشرناها، منها على سبيل المثال القبض على طبيب الكركمين أحمد أبو النصر، بعد أسبوعين من تحقيقنا عن الأضرار التي تسببها الوصفات الطبية مجهولة المصدر التي يعلن عنها على الفضائيات، وبعد 48 ساعة فقط منم نشر التحقيق قرر رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي تشكيل لجنة عليا لمنح ترخيص الإعلان عن أي منتج صحي أو خدمة صحية برئاسة وزير الصحة والسكان أو من ينوب عنه، قبل أن تتحرك أجهزة الأمن وتضبط أحمد أبو النصر الشهير بطبيب الكرمين، والذي تطرقنا إليه مباشرة داخل التحقيق، واستحوذ على 70% من الوصفات مجهولة المصدر التي رصدناها داخل التحقيق.
التأثير الذي أحدثه تحقيق الرمال البيضاء هو أقصى ما يتمناه الصحفي تتويجًا لعمله، خاصة عندما يبذل فيه كثير من الجهد.. ذلك التأثير يؤكد مجددًا الدور الفعال للصحافة الاستقصائية التي تُمثل بحق دورها الفعال في النهوض بالمجتمعات، والتماهي مع المؤسسات الرقابية ومساعدتها في أداء دورها، بما يعود بالنفع على الوطن والمواطن على السواء.