الإثنين 23 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

رواية ذائقة الموت.. أدب السجون والزّنزانة المُعتِمة

الخميس 03/مارس/2022 - 06:36 م

يصبح الحبّ نوًعا من السجن إذا حركتْه الشهوة، ويصبح فضاءً مطلقًا من الحرية إذا حركته العفّة. من سَجَنَتْهُ قُضبان النفس صَعُب عليه الخلاص، ومن سجنته قضبان الرّوح رأى ما يريد". 
تُّعد رواية "ذائقة الموت" لأيمن العتوم عملًا إبداعيا متكامل الأركان؛ لأنها تُعبر عن معايشة الكاتب لتجربة الاعتقال، من وجهة نظري هذا هو التمييز أن تتحول التجربة والمعايشة إلى عمل إبداعي يحمل في طياته العديد من الشخصيات الخيالية والحقيقة المُطعمة بالخيال لتنتج عمل كامل، يحمل مجموعة مُكثفة من الأفكار، والرسائل الغير مباشرة والمباشرة للقارئ (رسالة / ومرسل إليه / متلقي) لكن هذه الرسائل تحمل الخير لا الشر، تحمل التجديد لا الركود، هي رسائل تدعو إلى البحث الحقيقي عن الحرية؛ وذلك من خلال معايشة تجربة "السجن " فمن رحم التجربة تولد المعرفة، فالنص يركز اهتمامه على الحرية دون سواها، لا يميل الكاتب إلى تيار سياسي ولا يميل فكرة حزبية بعينها لكنه يميل إلى معنى أشمل وأعم وهو معنى "الحرية" والتحرر من القيود. 
ومن وجهة نظرى المتواضعة وعلى حسب اعتقادي الخاص يقصد الكاتب بالتحرر من القيود أى من قيود المجتمع الفكرية الثابتة التي لا جديد فيها، ففى المشاهد الخاصة بالمظاهرات فى الجامعة وترديد الشعارات الخاصة بالخيانة، والدعوة إلى تحرير الوطن، شعرت أن الكاتب يحاول جاهدًا أن يوصل فكرة للمتلقى وهى: بماذا افادتنا الشعارات مادامت مجرد شعارات دون عمل فعلى على أرض الواقع ؟!
(تحاول الشخصيات الثانوية وثبات الرئيسية): 
ويتأكد حدسي عندما تغيرت الشخصيات الثانوية مع أحداث الرواية شخصية سليم الضعيفة التي تحولت رأسًا على عقب إلى الشذوذ والإدمان، وهى شخصية فى مجملها تصور وتصف حياة السجن القاتمة، القاتلة، شخصية سليم تعبر عن الضعف والخنوع ، أمّا شخصية (ضياء) تعبر عن الحقد ورغبة الانتقام هى فى مجملها شخصية لا تحمل فكرة، على قدر ماهى تحمل (رغبة × )، والرغبة تتشكل فى الانتقام ، خصوصا إذا توفرت الوسائل التى تدعم هذا الانتقام وظهر ذلك من خلال انجذاب الشخصية إلى الجماعات المتطرفة داخل السجن. 
أمّا شخصية (لؤى) هي شخصية متذبذبة تريد الحياة فقط تريد أن تعيش موجات التغير التى تطرأ على كل زمان ، ومكان دون أن يصيبها الأذى، تردد شعارات لكنها ترغب الحياة، وهذه الشخصية تشكل الكثير من الشباب، وظهرت هذه الشخصية فى الكثير من ثوراتنا العربية شخصيات متذبذبة تركل المعتقد بأقدامها من أجل أن تعيش وربما هى محقة فى ظل تكميم الأفواه. 
وتبقى الشخصية الرئيسية "واثق" طرأت العديد من التحولات على الشخصية لكن أهمها بالنسبة لرؤيتى الخاصة هي تجربة السجن ويبدو أن هذا السبب الرئيسي لتسمية الكاتب للشخصية باسم واثق.. فهو واثق الفكر وواثق الإيمان بالحبّ وواثق أن الفكرة تبقى ولو اعدموها وواثق بأن الحكومات لن تتغير إلا إذا تغيرت الشعوب وهذا ما أكده الله عز وجل فى كتابه الحكيم 
فى قوله تعالى": إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [الرعد:11]. فالفكر هو المؤسس لكل هذه الحركات والمنتج الأول للخطاب السردي الإبداعي الذى بين يدى القارئ . 
بذلك نكون وصلنا إلى نقطة حيادية، وهى أن الكاتب لديه دقة رائعة فى الوصف، وصف الزنزانة والفأر صديقه، وتقديمه دمه والصراصير كواجبة لعهد الصداقة بينه وبين الفأر ليؤنس وحشة السجن:" أحتاج إلى مَنْ يجلس معي ولو كان فأرًا، تمنيت أن أبقى في الزّنزانة المعتمة ؛ ففيها على الأقل فأري العزيز أمّا هنا فالزنزانة خالية إلا منّي !!" هو وصف دقيق وبارع ليعبر عن معنى الوحدة والفقد والوحشة معانى اجتمعت فى ذهن الكاتب ؛ لتنتج صورة سينمائية ؛ ذلك ليكون القارئ مخرج لها ومُشاهد فى الوقت ذاته، وهذا ما يسمي بالصورة الوصفية. 
وفى صورة أخرى يصور الحرمان من القراءة ؛ ليعبر عن أهميتها فى رسالة واضحة للقارئ ؛ ليجعله يستشعر أهمية القراءة والحرية معًا، وعلى النقيض زوال هذه النعمة ليدرك أهميتها بعد ذلك فهى الخط الفاصل بين الحياة والموت: " كان الحرمان من الكتب أقسى أنواع الحرمان، وكم تحسّرتُ على الأيام التى كان فيها الكتاب رفيقي الدّائم، وكنت في بحبوحة من اختيار الكتاب الذى أريد، أعرف أنها كانت نعمةً عظيمةً لم أشعر بعظمتها إلا اليوم وأنا أجلس دون رواية أو ديوان شعر أو كتابٍ يحرك خلايا الدماغ ويُوِقظ مغارس الحس !!
العطش" 
أما النقطة الأهم والأقرب إلى قلبى وهى " دور المرأة فى كتابة أيمن العتوم": 
يصور العتوم المرأة دائما فى ثوب الطهارة والحبَ، يصورها العاشقة، يصورها المعشوقة التي تستحق ويصورها الأرض والمستقبل، وهى صورة قلما وجدنها فى الكتابات الحديثة وحتى القديمة غالبًا ما نرى المرأة جسد للمتعة ولتفريغ الشهوة لكنها فى كتاباته وسيلة لتفريغ الحبّ ولرسم قصيدة بحبر قلبها ، وكأنها مخلوق صنع ليكتب عنه أبلغ القصائد، فالحقيقة أشعر أنى امرأة عندما يكتب عن المرأة الأخت، والمرأة الأم، والمرأة الحبيبة، والمرأة الباقية الوافية حتى فى أشد حالات الكرب التي تتعرض لها شخصية واثق من سجن لأكثر من ثلاث سنوات، ففى الثلاثة سنوات لا يتخاذل واثق بل حبه إلى "منى" كان الحقيقة وسط السراب، كان حبه لها الصدق بين عتمة الكذب. 
فدور المرأة أصبح نشيطًا للأماكن المهجورة وللقضايا الشائكة، التي تكتشف من خلال الرواية وتمثيل هذا الواقع وتسليط الضوء عليها ذلك من خلال دعم "منى" لــ " واثق" ولشخصيته الثورية ولدعمها لأفكاره، ولإيمانها به رغم كفر الكثير من حوله به وبرسالته عن الحرية. 
شخصية الأخت سمية التى شكلت طفولته ،وقوته، وعزمه لم يصور شخصية الأخت التقليدية لكنه شكلها بصورة متميزة تشكل الفتاة المغامرة رغم أن نتيجة المغامرة كانت الموت إلا أنه صورها بالشجاعة والأقدام والتميز وسرعة الحفظ والتحصيل بل وجعلها تشكل تجربة النصف عمر، فالحقيقة هو تكريم للمرأة من خلال قلمه.
الرّسالة السابعة عشرة: 
" أحتاج إلى عشرة قرون كي يشفى قلبي من الحبّ !!! هل الحبّ داء أم شِفاء ؟! وهل الموت أم حياة ؟!! وهل هو حضورٌ أما غياب ؟! وهل هو كشفٌ أم حجاب ؟! وهل هو عبودية أم حرية ؟! أم تُراه يقف في المنطقة الرّمادّية بين كلّ ذلك !! لقد كان عشقك لذّة الروح حين يغيب العقل ويحضر الجنون. 
وكان سكرةً بم يُفق منها قلبى إلى اليوم ؛ فهل إلى كؤوسٍ من سبيل؟
!! عرّاب العهد الجيد 
١٧/آب
النقطة الأكثر أهمية أن الرواية مكانية "توافر عنصر المكان" 
الرواية تبدأ بالوادى "المكان المغلق" الموحِش الذى كان يشعر فيه الكاتب بالخوف وانقباض القلب، هو نفسه المكان الذى أخذ منه الأحبة، ومنه إلى المكان المفتوح المنزل حيث فطور الصباح مع الجد والجدة، والمزرعة وزوجة العم ، والعم ووجود الأب ،ومنها ينتقل بالزمان بالمكان إلى المدينة ثم إلى ساحة الجامعة وهطول المطر فيتحول المكان من المغلق إلى المفتوح أى "الأماكن المفتوحة" هي الأماكن التي تمتعت فيها الشخصية بقدر من الحركة والحرية ليأخذنا مرة أخرى إلى حجرة الزنزانة المكان المغلق الموحش يجعلك ترى الكلب وهو يبول في الحجرة التى لا تصلح للمعيشة، يجعلك ترى خوفه، وكأنه داخل علبة كبريت يختنق وأنت بوصفك كقارئ تختنق معه. 
من هنا تستشعر ماهرة وبارعة الدكتور أيمن العتوم فى توصيفه للمكان ،المكان الذى يُّعد من أهم العناصر الأساسية في بناء الخطاب السردي ذلك ؛ لأنه إطار تنطلق منه الأحداث وتسير وفقه الشخصيات. لذلك أشكر العتوم ؛ لأنه جعلني أتجول فى قرية أم الكروم بالأردن فمن خلاله أيضا شاهدتُ البئر وشربت منه مع شخصية " واثق وسمية" ورأيت وادي الموتى مثلما رآه واثق فانتابنى الخوف. جعلنى اشاهد جبال الأردن واتمتع بجمال القمر في الليل: 
في السفح الأعلى للجبل، تراءتْ لي تحت ضوء القمر مجموعةٌ من الأحجار المقصوصة على هيئة مكعّبات، وقد ارتفعت عن الأرض أقل من متر، وبُنِيَت على أربع جهات. 
... وقبل أن نصل شعرتُ بأنّ القمر صار قريبًا منا، وأن قرصة الفضّي سينزل بكامل بهائه من عليائه وينضم إلينا في جلسة صوفيّة شاعرية، أما الهواء فصار باردًا. ولم أكنْ بعد قد جربتُ أقدار الجبال حتّى تلك اللحظة. 
ولم أكن أعلم أن أبي سيفتح أمامي فضاء الخوف، وسماء الأحلام، وآفاق التّهيؤات التي تشكّل منزلةً من منازلِ الجنون !! "
أضاف إلى ذلك ففي كل فصل من فصول الرواية تتطور الأحداث وتنمو معها الشخصيات، بالإضافة إلى استخدام الرموز التي تعطي للرواية جاذبية وحيوية لتنشيط خيال المتلقي بالإضافة إلى أنها تعطي واقعية للشخصيات أو ما يسمى بـ "مورفولوجي الشخصية" فالدكتور أيمن العتوم يجعلك ترى الموت فى كل زاوية من زوايا غرفتك مرة فى جوف الوادي ومرة بين القصائد التى يقرأها ومرة من خلال المرض وكأن المرض دعوة للموت، يجعلك ترى سمية وهى تقتل الحية التى قتلها سحرها بعد ذلك، يجعلك ترى حبيبته منى وهى تأتى له بالكتب، ويجعلك تودعها بين صفحات الكتاب، وهى تودع واثق قبل انتقالها لملكوت الرحمن، يجعلك تشهق شهقة الخوف وتتثلج أعصابك عند رؤيتك لجمال صديقه وهو يغرق فى البحر وكأنك فى محاذاة مع البطل واثق داخل أحداث الرواية، وهذه تقنية سردية تسمى "مورفولوجية الشخصية" أي هي محاولة من الروائي أن يجعل الشخصيات/ الشخصية ذات واقعية وكائن حي على الورق لا يتجسد في الأفعال فحسب ولكن يمكن تصور ملامحه، شكله وهدوءه هكذا عرفها فيليب هامون فى كتابة سيميولوجية الشخصية ، ومن هنا يمكن القارئ أن يلاحظ رصد الشخصيات التي تأثرت وأثرت في الأحداث وفي تطورها وفي معايشة الحالة النفسية. فى الحقيقة الرواية جعلتنى أشعر بألم في قلبي ووجعًا خصوصا حينما ماتت سمية وماتت الأم، دائما شعور الموت يخنقني.
كل هذه الملاحظات عبارة عن أيديولوجيات وأفكار إيجابية ووظائف إبلاغية يصدرها الكاتب من خلال عمله الإبداعي ليجعل الأجيال القادمة تشتهى القراءة الإنتاجية التي تجعل القارئ يؤمن بالفكرة، وذلك من خلال وجهة نظري المتواضعة هذه الرواية لا تقل أهمية عن روايات جورج أورويل ولا روايات ماركيز؛ لأنها تحمل رؤية فلسفية ولغوية فريدة من نوعها وبعد مرور قرون ستصبح هذه الرواية كنز ثمين فى كل مكتبة.
*********** 

 

تابع مواقعنا