إرهاصات الحرب الكبرى!
لا تحاول ربط ما هو سياسي بما هو ديني، فأنت لست إلها وهم ليسوا أنبياء، كما أن المعركة هنا ليست هرمجدون، التي قالت عنها الكاتبة الأمريكية جريس هالسل في كتابها النبوءة والسياسة، "إيماننا راسخ بأن تاريخ الإنسانية سوف ينتهي بمعركة تدعى هرمجدون وأن هذه المعركة سوف تتوج بعودة المسيح الذي سيحكم العالم"، وإنما الحرب هنا ميراث من البغض السياسي والطموح إلى أرض باقية بلا تهديد يحمي فيها الحاكم عرشه وعروش من يخلفونه.
من يحاول تصوير الأمر على أن الأمة الروسية منقادة دون وعي إلى قدر تدمير العالم، كان هناك نظيرا له في حقبة ماضية وتحديدا في فترة الأشهر الستة التي سبقت انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي جعلت من القرن العشرين أكثر إثارة ومدعاة للتشاؤم بشأن مستقبل العالم.. كان هناك من يطمح إلى نهاية دراماتيكية للكون بأيدي أبنائه المدفوعين برغبة الآلهة إلى كبح جماح الأرض ومنع استطالة أيامها فوق ذلك من أيام.
أحداث الصعود إلى الهاوية
هل ما يقع حقا هو إرهاصات الحرب الكبرى؟، لست متأكدا إلا أن سيناريو الصعود إلى الهاوية لا يتطلب إلا ما هو واقع الآن من تخبط سياسي وتراشق فوضوي، وبعدها تنساب الأحداث العنيفة بتسارع محموم، لتلملم الجروح الغائرة بالموت المحتوم، وهو ما يبدو للملايين أنه اقترب من الوقوع بالمقارنة مع ما جرى في 6 أشهر من العام 1945.
أحداث عظمى وعنف متصاعد بدأ بسقوط ألمانيا النازية وصعود الاتحاد السوفييتي الشيوعي، والسقوط النهائي لـ«امبراطورية» اليابان، بالتزامن مع انتحار أدولف هتلر، ووفاة فرانكلين روزفلت، وتقسيم ألمانيا، بل أوروبا ذاتها، بل كانت الأشهر إياها تجسد للعالم – في صخب مرعب - الولادة العنيفة والكارثية للعصر النووي، حسب ما استعرض الكاتب الأمريكي مايكل دوبس في كتابه "ستة شهور من عام 1945: روزفلت، ستالين، تشرشل، وترومان.. من الحرب العالمية الثانية إلى الحرب الباردة".
وحتى التاريخ المقيت دوما ما يحمل الزيف الأكثر مقتا، إذ تضمن الكتاب الذي أرخ للحقبة الأصعب أمورا بعضها غير دقيق أو مكذوب أو مبالغ فيه، وبينها أن ما يقرب من مليوني ألماني قد ماتوا عند طردهم وإجبارهم على الرحيل من المناطق الحدودية، التي كانوا يقيمون فيها داخل بولندا وتشيكوسلوفاكيا السابقة، فالرقم كان مبالغا فيه، وربما تم تحديده من قبل قطاع من المجتمع الألماني كانت لديه أجندة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن ما يلفت الانتباه بقوة أن الكاتب كان حينها يستخدم ضمن الهفوات مصطلحي "السوفييتي" و"الروسي" ككلمتين يمكن أن تحل إحداهما محل الأخرى، على رغم أن التمييز بينهما فارق بقوة على الصعيد الجيوسياسي، لكن بالتوازي مع هذا السفه التاريخي كانت الفاجعة حاضرة بأن الحرب العالمية الثانية خلفت 70 مليون قتيل فضلا عن الخسائر والويلات العظيمة الأخرى التي لم تخرج البشرية من بعضها حتى الآن.
الخير المطلق VS الشر المطلق
الانقياد نحو الهلاك لم يكن النظرية الوحيدة التي سيقت عبر الدينيين، بل كان هناك فريق عقلاني على الجانب الآخر يشدد على أن ما يحدث نتاج طبيعي لصعود الأنظمة الدكتاتورية التي تهدف إلى الانتقام من الإهانات الجيوسياسية الماضية وإعادة رسم الحدود وهو ما تحاول أنظمة كوريا الشمالية وروسيا وإيران الإعداد له بشكل أو بآخر في أيامنا تلك.. واستند هؤلاء في نظريتهم المنسلخة من التشاؤم السياسي، على ما حدث قبيل الحرب العالمية الثانية في ألمانيا وإيطاليا واليابان وروسيا.
أصحاب النظرية تلك ذهبوا إلى أدلة ما يتشكل عبر تاريخ الأمم من حواجز الفصل العنصري وإثارة الأحقاد القومية، مثلما يحدث في أمريكا ضد المهاجرين وما يحدث في إسرائيل ضد الفلسطينيين.. وهؤلاء لم يبتعدوا كثيرا عن النظرية التي تربط كل ما هو سياسي بكل ما هو ديني أو أخلاقي، لكنهم هذه المرة استندوا إلى فكرة أكثر تجردا من الخطاب الديني بخطاب جديد يجد رواجا كبيرا وهو خطاب يجعل الخير المطلق مقابل الشر المطلق، إذ يترك هؤلاء الحبل مستطيلا لكل فيلق لتحديد أطراف المعسكرين/ الخير والشر، وفقا للهوى، الذي لا يمت بدوره للموازين الدينية المقدسة بل يخضع للاعتبارات السياسية القحة.
والعجيب أن تلك الملابسات تتشابه دون مبالغة أو اختلال مع ما يجري الآن على الأرض، فالمعسكرين المتباريين/ روسيا وأوكرانيا، يستخدمان شائعات القطط التي تقاتل مع رجالهم في الأحراش، والجميلات اللاتي تركن المرايا وغرف النوم ليقاتلن في صفوف المحاربين دفاعا عن الأرض، بينما كل تلك المبالغات لا تعدو كونها حربا نفسية، لإقناع "العساكر" في كل رقعة على حدة، أنهم يقاتلون مع الخير المطلق ضد الشر المطلق.
ويبقى بعد هذا الاطّراد تساؤلٌ قائمٌ، وهو: هل التشابك الروسي الأوكراني، هو الحرب العالمية الثالثة، أم أن ما يقع من بوتين وزيلينسكي وإعلامهما، إرهاصات للحرب القادمة على عجل، ولكن على مدى أكثر بعدا وعمقا ودمارا وشرا مما يجري الآن.