سنوات الحرب الباردة
عبر الزمن نشأ صراع أزلي بين الشرق والغرب؛ ووصل لبدايات ذروته إبان الحملات الصليبية، ويقول المؤرخ الفرنسى رينيه جارسيه في كتابه موجز تاريخ الحروب الصليبية، إن أوروبا وجدت نفسها متمثلة في الحضارة الهيلينية القدرة على مواجهة العالم الشرقي متمثلا في آسيا المتمثل آن ذاك في الإمبراطورية الفارسية، والأمر لم يكن يتعلق بالدين فقد كان ذلك قبل الميلاد وتطورت الدولة البيزنطية حيث صبغت نفسها بالصبغة الدينية ولكن سبب الصراع في المقام الأول هو صراع على الثروات والموارد الطبيعية الموجودة في الشرق بوفرة متميزة في ذلك عن ندرة الموارد في الغرب.
وتطور الصراع ليأخذ أشكال ومنحنيات كثيرة حتى وصلنا لمرحلة انهيار وتفكك الدولة العثمانية وأصبح الصراع منحصرا بين الشرق متمثلا في الاتحاد السوفيتي والغرب متمثلا في أمريكا وغرب آوروبا.
وأثناء الحرب العالمية الثانية تحالف الاتحاد السوفيتي مع الغرب لمجابهة خطر النازية حتى إن انتصروا وانتهت الحرب فعاد كل معسكر لعداوته للمعسكر الأخر وبات حلفاء الأمس خصوم اليوم وقد كانت ألمانيا ساحة للصراع المخابراتى بين المعسكرين، ثم قررت أمريكا تشكيل حلف شمال الأطلسي عام 1949 وكان يتألف من القوى الغربية مجمعة أمريكا وغرب أوروبا فردت روسيا بتشكيل حلف وارسو عام 1955 نتيجة لضم ألمانيا الغربية لحلف الناتو، وكان يضم حلف وارسو دول الاتحاد السوفيتي بشكل رئيسي وضم بعض الدول الأخرى مثل ألمانيا الشرقية التي كانت تحت السيطرة الروسية.
في نفس التوقيت كان التنين الصيني في المعسكر الشرقي يستفيق على يد زعيمه "ماو" ولكن خلافًا أيدولوجيا دب بينه وبين الزعيم السوفيتي "خورتشوف" جعل الصين تجنح من المعسكر الشرقي المحسوبة عليه حتى الآن ظاهريًا ولكنها أخذت منحنى شيوعيا مختلفا عن الشيوعية السوفيتية، ثم جاء من بعد "ماو" مؤسس الصين الحالية الفعلي "دنج شياو بينج" والذى رأى أنه يجب على بلاده الانفتاح على العولمة الغربية بل تطويع العولمة الأمريكية لصالح الصين.
الزعيم الصينى "دنج شياو بينج" رأى المستقبل عام 1978 عندما أبصر أن المستقبل سيؤول للغرب وليس للاتحاد السوفيتى فتبنى سياسة خاصة بالصين ولم يرتمى في أحضان المعسكر الشرقي، وهنا يمكن القول أن المعسكر الشرقي خسر قوة اقتصادية وبشرية هائلة.
بالنسبة للعالم في سنوات الحرب الباردة كان وجود قوتين عظمتين رغم أنها تثير الكثير من التوترات إلا أنها أعطت الكثير من التوازنات السياسية للعالم في موازين القوى، لكن الصراع بين القوتين كان على أشده إعلاميا ومعلوماتيا فقد حاول المعسكر الغربي العمل على إضعاف الاتحاد السوفيتي ليبقى المعسكر الغربي هو المسيطر على العالم وهنا بدأت محاولة اجتذاب دول حلف وارسو للمعسكر الغربي عن طريق التنفير من سياسات روسيا وساعدهم في ذلك سياسات الروس من شعورهم بالفوقية تجاه دول مثل أوكرانيا وجورجيا وبولندا وغيرهم رغم أن هذا يتنافى مع مبادئ الشيوعية؛ فازدادت الكراهية بين روسيا ودول حلف وارسو واستمرت الفجوة في التوسع واستغل المعسكر الغربي ذلك وأجج التمزق وجاءت حادثة تشيرنوبل لتدق أخر مسمار فى نعش الاتحاد السوفيتي وتزداد كراهية دول مثل أوكرانيا وهى دولة جارة لروسيا وتعتبر أمنًا قوميًا مباشرًا حيث كان المواطنون الأوكران يرون أن الشرور لا تصيب روسيا ولكنها دائما تصيب عبيد روسيا كما يرون هم أو حاول المعسكر الغربى تأجيج هذه الفكرة عبر سنوات وأنهم لن يشعروا بالحرية تحت العلم الأحمر بل عندما يعيشون الديموقراطية والعولمة الأمريكية، كانت هذه الاستمالة تحت وطأة من الهيمنة الأمريكية إعلاميا ومخابراتيا استطاعت بها هزيمة المعسكر الشرقي فدخلت روسيا في صراع داخلي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وبدأت الثورات الملونة لتفكيك المفكك فتفكك الاتحاد اليوغسلافى لست دول رئيسية، وننوه هنا إلى أن تجربة النيو ليبرالية الأمريكية كانت تعد لتنقل إلى دول الشرق الأوسط فكان تدريب بعض من الشباب المصري المختار لتجنيده في إحدى دول الاتحاد اليوغسلافى المفككة وهى صربيا.
كانت عين الغرب على الشرق كله تفكيك الدول الكبرى والتي لها ثقل سياسي مثل الاتحاد السوفيتي سابقا، ثم روسيا لاحقا وبالتوازي الشرق الأوسط تفكيك وإضعاف الجيوش العربية التي لها وزن واعتبار في موازين القوى العسكرية في العالم مع حسبان عدم اتحاد الجيوش العربية مرة أخرى كما حدث في حرب أكتوبر 1973، حدث هذا بشكل تدريجي عن طريق الاستمالة والسيطرة الإعلامية فإذا نظر أي مواطن لنفسه فنجد أن مصدر أخباره غربي وتواصله عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي الغربية فتختار ما تقدمه للمتلقي ومراكز ومقرات الأمم المتحدة غربية والكثير من العلامات التجارية للمأكولات والمشروبات غربية في محاولات مستميتة للهيمنة على كل القرارات والتحكم في مصائر الشعوب بالإعلام والأفلام والمسلسلات وشكل الحياة، وعلى النقيض نرى ضعف الآلة الإعلامية الشرقية في مجابهة نظيرتها الغربية.
اتسمت الحرب الباردة بالصراع المعلوماتي والإعلامي والغلبة كانت لمن امتلك مقدرات هاذين العنصرين فسيطرت أمريكا والقوى الغربية وأصبحت أمريكا هي القاضي والشرطي في العالم ليبدأ عصر القطب الأوحد، ولم يكن الغرب خاليا من الانقسامات والصراعات فقيادة الغرب دائما في القارة الأوروبية في صراع بين الأمة الأنجلوسكسونية مثمثلة في بريطانيا والأمة الجيرمانية متمثلة في ألمانيا لتحديد الهوية الغربية؛ ولم يكن تصريح المستشار الألماني الجديد شولتس بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بأن عليهم تخصيص نسبة 2% من الموازنة العامة للشأن العسكري لتحديث الجيش الألماني مجرد تصريح، إلا أنه ينذر بعدم اعتماد الدول الأوروبية مستقبلا على حلف الناتو بشكل عام وأمريكا بشكل خاص مما ينذر ببداية عصر انتهاء أو ضعف حلف الناتو وهو الذى أبرزته العملية الروسية الأخيرة التي جاءت لتكسر حدة الحرب الباردة أو يمكن القول التصدي للهيمنة الغربية.
الدول الكبرى الصاعدة مرة أخرى للساحة السياسية مثل مصر كانت تتوقع هذه الأزمة السياسية والاقتصادية واستعدت لها منذ صعود زيلينسكى للحكم عام 2019 حيث تم إطلاق المشروع القومي لصوامع القمح لبناء صوامع بجهازية عالية لتخزين القمح لتستوعب معدلات أكبر من الاحتياطي الاستراتيجي من القمح للبلاد حيث من المعلوم أن أكبر منتجي ومصدري القمح في العالم هم أطراف الصراع روسيا وأوكرانيا، وعندما توترت الساحة السياسية مرة أخرى بمطالب الكرملين في ديسمبر عام 2021 تلاحظ إيقاف صرف الدقيق من السلع التموينية في يناير 2022.
وبدأت الدولة تعمل على وضع سياسات اقتصادية حذرة وإيجاد بدائل للقمح الأوكراني وتعاقدت في ديسمبر 2021 على قمح أوكراني وقمح فرنسي وغيره من الدول المصدرة، ولكن من المؤكد بأسعار أعلى مما سيتسبب بضغط على الموازنة العامة للدولة ولكن تكمن قوة أي دولة في توافر المعلومات المسبقة والتحليلات والتوقعات مما يكون له الأثر الإيجابي في تقليل أي آثار سلبية من حروب وغيرها. فالفائز دائما في الحروب بجميع أنواعها هي الدولة التي امتلكت المعلومة وقدرتها وكان لديها شعب واع بالتحديات المختلفة.