الاختيار 3 والخلايا الإخوانية النائمة
المعاصرة حجاب، قاعدة فكرية ذكرها ابن رشيق القيرواني صاحب كتاب العمدة، وهي تعني أن معايشة الأحداث والأشخاص قد تمنع الإنسان من معرفتهم والحكم عليهما كما ينبغي بصورة صحيحة؛ لأن الصورة الذهنية التي تتكون عنهما قد تكون ناقصة، بسبب الهوى والمنافسة وتضارب المصالح.
وهذا رأي صحيح، لكن ليس بإطلاق؛ فأحيانًا تصبح المعاصرة كاشفة ومحفزة للذهن والبصر والبصيرة، بهدف البحث عن الحقيقة وتوثيقها وروايتها ونقلها للأجيال القادمة.
وهذا في يقيني ما حدث مع صُناع مسلسل الاختيار بأجزائه الثلاثة التي وثقت بصدق ودقة لتفاصل أهم الأحداث التي عاشتها مصر وشعبها ومؤسساتها الوطنية خلال العشر سنوات الأخيرة، والتي كنا جميعًا إلى حد كبير، جزء منها سواء كمتابعين ومراقبين أو كمشاركين.
وأظن أن الجزء الثالث من مسلسل الاختيار الذي يُعرض منذ بداية شهر رمضان المُبارك، الذي حمل عنوان القرار هو أكبر برهان على صدق الرأي السابق؛ لأنه يُعيدنا إلى أجواء ثورة 30 يونيو 2013 التي شارك فيها ملايين المصريين، ويكشف النقاب عن تفاصيل وأسرار وخفايا سنة حكم جماعة الإخوان، ودور الشعب والمؤسسات الوطنية المصرية في إسقاط حكمهم.
في هذا الصدد، يمكن اعتبار الحلقة الثالثة من هذا الجزء التي حملت عنوان أخونة الدولة، وثيقة اجتماعية وتاريخية عن وعي الشعب المصري ورفضه لحكم الإسلام السياسي، وبراعته في كشف الخلايا الإخوانية النائمة، وعن دور المؤسسات الوطنية المصرية في حماية وحدة وثقافة وهوية مصر وثوابت أمنها القومي.
وموضوع الخلايا الإخوانية النائمة الذي كشفت عن حقيقة ولاءها وانحيازها وانتماءها في سنة حكم الإخوان، موضوع في قمة الأهمية، أشار إليه الجزء الثالث من مسلسل الاختيار عرضًا، لكنه يحتاج إلى كشف تفاصيله وأبعاده ودلالاته ومآلاته، وهذا ما سوف أحاول تقديمه عبر هذا المقال.
ففي ذروة لحظة الشعور بالقوة والانتصار التي عاشتها جماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة 25 يناير، وخروج أتباعها من طور التخفي والاستضعاف إلى طور الظهور والاستقواء، وسعيهم لتحقيق حلمهم التاريخي في حكم مصر، سعت جماعة الإخوان المسلمين إلى السيطرة برجالها على كافة مؤسسات الدولة، فيما عرف بمصطلح "أخونة مؤسسات الدولة"، خاصة بعد وصول الدكتور محمد مرسي لمقعد رئاسة الجمهورية.
وعند تلك اللحظة الحرجة والكاشفة، تسابق المشتاقون من عشاق المناصب إلى إظهار هوية إسلامية عن طريق تربية اللحية، والمداومة على أداء الصلاة بشكل مسرحي لافت للأنظار، باعتبار أن ذلك هو جواز مرورهم للمناصب والمكاسب في نظام حكم الإخوان.
وأتذكر هنا ما رواه روى لي صديق أكاديمي يعمل بإحدى الجامعات الإقليمية، عندما فوجئ في مكتب رئيس الجامعة التي يعمل بها، بأستاذ جامعي يعرفه جيدًا، ويعرف عنه عدم الالتزام الديني، وقد أطلق لحيته وأتخذ شكل وسمت الإسلاميين الخارجي.
وعندما سأله هذا الصديق عن السر وراء ذلك التغيير وتلك الهيئة، قال له: إنه انضم إلى عضوية حزب الحرية والعدالة، وأصبح بهذه العضوية، وبتلك الهيئة قادرًا على الدخول إلى مكتب رئيس الجامعة في أي وقت، وبأي طلب، فلا يرفضه أبدًا.
وبالطبع فإن هذا الأستاذ الجامعي المتلون، كان له نظير في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة، غير أن هؤلاء لم يمثلوا مفاجأة كبيرة لنا؛ لأن تلك هي طبيعة الشخصيات "الفهلوية" الانتهازية صاحبة مبدأ: أرقص للقرد في دولته.
لكن المفاجأة الصاعقة التي أصابت الكثيرين منا جاءت عبر اكتشافنا حقيقة الانتماء الإخواني لكثير من المصريين؛ قضاة، أساتذة جامعات، فنانين، صحفيين، أشخاص عاديين من الجيران وزملاء العمل، كانوا خلايا نائمة للجماعة، عاشوا بيننا في طور التخفي، واستطاعوا أن يُخفوا عنا وعن الأجهزة الأمنية حقيقة انتمائهم للجماعة أو تعاطفهم المطلق مع فكرها ومشروعها، ثم خرجوا من طور التخفي إلى طور الظهور، وأعلنوا عن حقيقة انتمائهم لها بعد وصول الإخوان للحكم، في محاولة منهم لجني ثمار هذا الانتماء، والحصول على المناصب والمكاسب، بعد أن توهموا أن الدولة المصرية قد أصبحت لهم.
ولهذا جاء السقوط السريع لحكم الإخوان صدمة مدوية لهؤلاء، صدمة أطاحت بكل أحلامهم، وكشفت حقيقتهم، وجعلتهم في مأزق كبير، بعد أن فقدوا طمأنينة وأمن التخفي، وصاروا معروفين للناس وأجهزة الأمن، ولم يجنوا في ذات الوقت أي ثمار للظهور وكشف حقيقتهم.
وهؤلاء في يقيني هم اليوم الأشد رفضًا وكراهية على مستوى الفكر والوعي، وعلى مستوى القول والفعل لثورة 30 يونيو، ولنظام حكم الرئيس السيسي، وهؤلاء هم أيضَا اليوم الأكثر رفضا ونقدًا لمسلسل الاختيار(3).