طز نجيب محفوظ..!
بين "طز" محجوب عبد الدايم بطل رواية القاهرة الجديدة للأستاذ نجيب محفوظ، الذي جسده سينمائيًّا الفنان الراحل حمدي أحمد، وطز كمال عبد الجواد بطل رواية السكرية، الجزء الثالث من ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، وهو الدور الذي جسده سينمائيًّا الفنان الراحل نور الشريف، تسير حياة أغلب "الأفندية" من أبناء الجماعة الثقافية والمهتمين بالشأن العام في بلادنا منذ بداية القرن العشرين.
وقد كان الراحل نجيب محفوظ بارعًا في التناول الدرامي لكلا الطزين، والتمييز بينهما؛ عندما جعل طز محجوب عبد الدايم اللاأخلاقية، تأتي في بداية مشوار الحياة والعمل العام، لتصبح دستورًا يتبعه صاحبها، وبوابة لنجاحه وصعوده الطبقي والمادي.
وعندما جعل طز كمال عبد الجواد العبثية، تأتي في نهاية مشوار الحياة، بوصفها شكلًا من أشكال جَلد الذات، ونقدًا لمنجزها في رحلة الحياة، وعنوانًا على خيبة أملها وفشلها وحجم خسارتها.
ونحن نعلم أن طز الأولى اللاأخلاقية، تعني طز في القيم والمبادئ والمُثل العليا، وطز في كل من يؤمن بها من رجال الدين والفلسفة والعلم؛ وعلى الإنسان أن يبحث عن مصلحته الخاصة، وأن تكون معايير تفضيله وحكمه وسلوكه مُؤسسة على أرضية ما يجلب له القوة والثروة والسعادة واللذة، دون اعتبار لأي قيم أخلاقية أو دينية.
وقد عبر عن تلك القناعة فيلسوف الوضاعة والمهانة محجوب عبد الدايم بطل رواية القاهرة الجديدة على النحو التالي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طز.
أما طز الثانية العبثية، التي جاءت على لسان كمال عبد الجواد بطل رواية السكرية، وهو ينظر بأسى وغضب لسيرة حياته، ومقدار خسارته وعدم تحققه فيها، بعد أن عاش يبحث عن القيم والمبادئ والمثل الفكرية والأخلاقية العليا، ملتزمًا بها، وهو الالتزام الذي جعله في منظوره الشخصي، ثابتًا في مكانه لا يتغير، في حين تغير وتقدم العالم من حوله.
ولهذا يخاطب كمال عبد الجواد ذاته قائلًا: كل الناس بتكبر وبتتغير؛ رضوان سكرتير وزير، حتى جليلة تتوب! وأنا زي ما أنا، خوجة في مدرسة السلحدار الابتدائية، وأكتب مقالات في مجلة الفكر لا يقرأها أحد.
لينتهي بعد ذلك من تأملاته وحوار مع ذاته بنتيجة مؤداها: طز في كمال عبد الجواد؛ بعد أن صارت الخيبة عنوانًا لحياته، وتحطمت أوهامه، وكفر بنفسه ومبادئه وكل ما كان يؤمن به، ودخل في حالة من الحزن وخيبة الأمل والذهول والدهشة، لخلو العالم من مباهج الأحلام، ومن ضياع الماضي الساحر إلى الأبد.
وبالطبع فإن تلك مفارقة مثيرة للتأمل في عملي نجيب محفوظ الشهيرين؛ أن تصبح طز بدلالاتها اللاأخلاقية والعبثية قاسمًا مشتركًا بين شخصيتين متناقضتين تمامًا من أبطال روياته؛ فالأول محجوب عبد الدايم ابن الطبقة الدنيا، عديم الأخلاق والمبادئ، وفهلوي وانتهازي عديم الجذور، لكنه متصالح مع ذاته وخياراته في الباطن، وناجح ومتحقق إلى حين في الظاهر. والثاني كمال عبد الجواد، ابن الطبقة الوسطى، المثالي الحالم، صاحب الفكر والوعي والقيم والأخلاق.
ويزداد تعجبنا عندما نعلم أن أزمة ومعاناة كمال عبد الجواد، كانت إلى حد كبير هي أزمة ومعاناة نجيب محفوظ شخصيًّا، وأن محجوب عبد الدايم شخصية حقيقية، عرفها في أثناء بداية حياته المهنية، كما صرح بذلك للراحل الأستاذ جمال الغيطاني، الذي أورد بدوره تلك المعلومة في كتابه المجالس المحفوظية.
ويزداد تعجبنا أيضًا حين نعلم أن محجوب عبد الدايم وكمال عبد الجواد، قد صارا في سياقنا الاجتماعي والثقافي شخصيات مفهومية حية، توجد في كل زمان ومكان، وأن الصراع بين نموذج ومفهوم محجوب عبد الدايم، وبين نموذج ومفهوم كمال عبد الجواد لا يزال قائمًا في مجتمعنا وحياتنا العامة إلى اليوم، وهو صراع لا تزال الغلبة فيه بكل أسف لمحجوب عبد الدايم.
وأظن أن صلاح حالنا وشأننا العام لن يتحقق، إلا عندما يتراجع دور محجوب عبد الدايم، وينكشف زيفه وفهلوته، وبراعته في اللعب بالبيضة والحجر والرقص على كل الحبال بحثًا عن منفعته الشخصية فقط.
وعندما يتوقف كمال عبد الجواد عن جلد ذاته بقسوة، وينقد بعقلانية أفكاره ورحلته ومشواره، وعلاقته بسياقه المهني ومجتمعه، ليعرف بصدق أسباب ثباته في مكانه وعدم فاعليته، ويُصوب أخطاءه، ويستدرك ما فاته، ويرضى عن خياراته ومنجزه ورحلة حياته، ويصبح أكثر واقعية وقدرة على تقديم المنفعة لذاته ومجتمعه ووطنه.