بورتريهات الفيوم..!
وجوه وبورتريهات الفيوم، هو الاسم الحديث لمجموعة من اللوحات الشخصية التي رسمت على الخشب، وكانت تُلصق على وجوه المومياوات في مصر أيام الرومان.
وجدت هذه البورتريهات بمحافظة الفيوم في مصر، وإن كانت قد وجدت أيضًا في مواقع أخرى تمتد من سقارة شمالًا إلى أسوان جنوبًا.
وهي تُجسّد ملامح ووجوهًا مصرية أصيلة، تألفها بمجرد رؤيتها، وتستشعر أنها وجوه لبشر كثيرين تراهم كل يوم في قرى ومدن مصر.
تعود تلك البورتريهات لفترة الحكم الروماني لمصر، ومع ذلك لا تمثل مرحلة نهاية الفن المصري القديم، بل مرحلة تحوله وتمازجه مع الفن اليوناني والروماني.
ولذلك يمكن أن نستنبط منها أهم ملامح الفن المصري القديم، الذي لم يهتم برسم الشيء المرئي الكائن، بل الخفي غير المرئي، وما ينبغي أن يكون؛ فهو في جوهره تجسيد للتجريد، واستحضار لكل ما هو بعيد وغائب.
أهم ما يميز تلك البورتريهات أمران:
- الألوان الزاهية للأجزاء الظاهرة للملابس، وأسلوب تصفيف الشعر واللحية للرجال، وأسلوب تصفيف الشعر والتزين بالحلي للنساء.
- ملامح تلك الوجوه النفسية والفكرية البادية للعيان وعمقها المذهل؛ فهي شخصيات جوانية بامتياز، تستشعر أنها غارقة في التفكير الباطني والحوار مع الذات، والتساؤل حول سبب الوجود ومعنى الحياة وجدواها، ومصير الإنسان، وإلى أين سيذهب بعد الموت.
وهذا العمق بالطبع مستمد من جذور الشخصية المصرية البعيدة الضاربة في عمق الحضارة المصرية القديمة، التي ترجع إليها نشأة التأمل الفلسفي في العالم، واختراع العالم الآخر والخلود.
ولهذا إذا أطلنا النظر في عيون تلك الوجوه، التي تكشفها البورتريهات، سوف تبدو لنا نظرتها الفلسفية العميقة، ونستشعر أنها قادمة من العدم إلى الوجود.
وهذا الاستنتاج يتأكد لنا إذا وضعنا في الاعتبار أن تلك البورتريهات، كانت ترسم للشخص في حياته، وقد تُعلق في منزله حتى وفاته لتوضع بعد ذلك على موميائه بعد رحيله.
وبالتالي، فقد كان الشخص المرسوم يعلم جيدًا أن تلك اللوحة تمثل امتداده واستمراره في الوجود، عندما ينتقل من الوجود الدنيوي إلى العالم الآخر؛ ومن ثم يمكن أن نعدها مظهرًا من مظاهر انشغال المصري في تلك المرحلة التاريخية بالخلود، باعتباره هاجسه الأول والأخير، ولهذا سعى جاهدًا للتخلص من الشعور الثقيل بحضور ما هو نسبي زائل، لكي يتواصل مع المطلق والأبدي.
وإذا كان بعض الفلاسفة قد اعتقدوا أن الحرية الحقيقية تكمن في وعي الإنسان للضرورة الكامنة في صميم الوجود، وأنه ليس حرًا تمامًا؛ فقد جعلتني تلك الوجوه التي تجسدها بورتريهات الفيوم والسمات المميزة للروح المصرية القديمة، أرى أن الحياة الحقيقية لا تبدأ كما يظن الجميع بالولادة، بقدر ما تبدأ بوعي الموت، بوصفه الحقيقة الأكثر جوهرية في الوجود الإنساني
وبالتالي فإن الحكمة الحقيقية هي وعي الموت وحتمية الرحيل عن هذا العالم، وهذه الحكمة تُلهم الإنسان بكل ما هو سامٍ وجليل؛ ليعيش بعد امتلاكه لها يسعى إلى أمر واحد، هو أن يجعل لحياته العابرة معنى، ولوجوده الفاني قيمة.
في النهاية إن تلك البورتريهات هي لحظة مرصودة من عمر إنسان عابر مر على تلك الأرض، لحظة منفصلة بذاتها جُسدت في تلك اللوحة.
وقد رحل هذا الإنسان العابر، لكن تلك اللحظة المرصودة ما زالت تحيا، وأصبح زمانها ممتدًا بزمن بقاء تلك البورتريهات التي اعتبرها الفنان العالمي "بيكاسو" قمة فن البورتريه في العالم.
وهذا هو الخلود الذي يهبه الفن وممارسته للإنسان الذي مهما طال وجوده على الأرض، فهو راحل، لكنه يُخلف بالفن من بعد رحيله أثرًا يبقى.