سامح محجوب يكتب: مركزية مصر الثقافية والجمهورية الجديدة
في زمن ليس ببعيد كانت مصر تمارس ما يمكن توصيفه مجازًا بالإمبريالية الثقافية والفنية على محيطها العربي وربما الإقليمي كما كانت المعبر الوحيد تقريبًا للوجود والتحقق الثقافي والفني.
وهذا الأمر يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين تقريبًا والشواهد على ذلك لا تبدأ بالمنتج الثقافي والفني والصحفي المتنوع والثري ولا تنتهي بمن صنعوا هذه الحالة من مثقفين ومبدعين كانوا ومازالوا علامات طريق ملهمة لأجيال مضت وأجيال سوف تأتي، وكان من الممكن أن تكسر مصر قاعدة أن دوام الحال من المحال وتستمر مركزيتها الثقافية حتى اللحظة الراهنة- خاصة أن مصر مازالت حية ومبدعة وقادرة على ذلك على الأقل من ناحية توافر العنصر البشري النوعي في كل المجالات -لكن للأسف الشديد فقدت مصر أو كادت أن تفقد مركزيتها الثقافية على كل الأصعدة، نظرًا لتخبط إدارتها الثقافية ومحدودية خيال من يقومون على أمر ثقافتها من الموظفين !!والمثقفين الموظفين!! الذين مارسوا الثقافة بندًا ماليًا وفاعلية كرنفالية دون أدنى تفكير في الحالة السوسيولوجية للمحيط المتلقي الذي يواجه موجات متلاحقة من الأنماط والثقافات والذي يحتاج لطرق جديدة تناسب ما يتعرض له المجتمع يوميا من عصف عقلي وروحي. هل يصدق أحد أن مصر بكل تاريخها وثقلها الثقافي ليس لديها جائزة واحدة عربية أو عالمية ذات تأثير أو جماهيرية !! كجائزة البوكر في نسختها العربية مثلًا!
وأنها لم تستطع استثمار اسم أديب عالمي كنجيب محفوظ في تدشين جائزة عالمية للرواية باسمه!!
هل يصدق أحد أن معظم من يتم دعوتهم من المثقفين العرب الكبار للفعاليات الثقافية المصرية الدولية -وهي محدودة جدًا بالمناسبة - يعتذرون عن عدم الحضور مفضلين فعاليات ثقافية أخرى في بلدان أخرى!
هل يصدق أحد أن مصر بكل دور نشرها الرسمية والخاصة لا تقدم كتابًا يمكن التوقف أمام مستواه شكلًا أو مضمونًا!
وأن كل قطاعات وزارة الثقافة تحولت لقطاعات نشر !! بلا خطة أو توجه واضح يخدم خطط التنمية المستجدة التي تطرحها الدولة في إطار تدشينها للجمهورية الجديدة !
هل يصدق أحد أن معرض القاهرة الدولي للكتاب أحد أهم وأقدم وأعرق معارض الكتب في العالم ينتهي به الأمر إلى سوق لبيع الكتاب بعدما كان المصدر الأكثر تأثيرًا وحضورًا وأهمية في صناعة المشهد الفكري العربي ؛ هذا رغم اللوجستيات غير المسبوقة التي وفرتها الدولة لإنجاحه في دواراته الأخيرة !!
هل يصدق أحد أن تسعين بالمئة من الفعاليات الثقافية التي تنظمها مصر والتي تنفق عليها الدولة مليارات الجنيهات لا يحضرها أحد ولا يشاهدها أحد ولا يتابعها أحد حتى على المنصات الرقمية!!
وهي بالمناسبة بالمئات وتتعامل معها وزيرة الثقافة كمنجز كمي لا كيفي!
هذا رغم شغف ومحبة المصريين للثقافة والفنون.
هل يصدق أحد أن المجلس الأعلى للثقافة المنوط به وضع السياسات الثقافية لكل قطاعات وهيئات وزارة الثقافة ولمصر والذي من المفترض أن تضم لجانه نخبة النخبة من مثقفي ومبدعي مصر - انتهى به الأمر إلى جهة منظمة لبعض الفعاليات الثقافية!
وهو الأمر الذي يتنافى تمامًا مع دوره واختصاصاته!
كما أن لجانه أصبحت مكانًا للأقل إبداعًا وعلمًا في كل التخصصات!!
كما أن جوائزه بكل ما تتمتع به من عائد مادي كبير لم تستطع حتى اللحظة الراهنة أن تخطف الأضواء من جوائز محلية أقل شأنًا وقيمة، بل وتعتمد على آليات قديمة ومعيبة وغير معيارية فى المنح والمنع!
هل يصدق أحد أن مصر التي تسابق الزمن والظروف والعالم بأسره في تحديث بنيتها الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية-مصر التي تخوض أكبر معاركها ضد التيارات الظلامية- هل يصدق أحد أن يتغيب ويتراجع فيها الفعل الثقافي إلى الحدود الدنيا من مهامه في لحظة كان لا بد أن تكون الثقافة في قلب المشهد.
وسيطول بنا الحديث ربما إلى ما لا نهاية لو أخذنا في إحصاء ما خسرته الثقافة المصرية من مكاسب -كانت تضيف لمصر ثقلًا عربيا وإقليميًا إلى جانب ثقلها السياسي والتاريخي-على أيدي مجموعة من المسؤولين الثقافيين الميديوكور.
وليس أدل على ما ذكرت من الذي حدث أخيرًا في ملف اختيار القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية من قِبل منظمة الإيسيسكو منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الاختيار الذي لم يكن مفاجئًا أبدًا حيث كان الاختيار قد وقع على القاهرة منذ عامين2020 وتم تأجيله نظرًا لظروف جائحة كورونا التي ألمت بالعالم، الشاهد فى الأمر أن هذا الحدث الدولي الكبير لم يكن مفاجئًا للوزارة التي تعج بالموظفين- الفائضين عن حاجتها الفعلية- ليتعاملوا معه بهذه الطريقة التلفيقية التي لاتليق ببلد يمتلك هذا الكم الهائل من شواهد الحضارة الإسلامية والعربية، كان لا بد من وضع خطة واضحة ومعلنة لفاعليات دولية كبيرة ونوعية لهذا الحدث بشكل يعزز ويخدم ثقافة مصر وسياحتها ومكانتها لا أن يتم إدخال كل أنشطة وزارة الثقافة لهذا العام تحت لوجو الاحتفال باختيار القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية بشكلٍ واضح الاعتساف والتلفيق حيث أن أغلب هذه الأنشطة محلي وغير مناسب بالمرة لهذه المناسبة الدولية الكبيرة التي كان من الممكن استثمارها ضمن خطط التحديث والتنمية التي تعمل عليها الدولة منذ أعوام بل ولاستعادة ما فقدته مصر من مركزية ثقافية هي في أشد الحاجة إليها الآن وليس غدًا.