الخميس 19 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

“ابن رشد الغزالي”.. دراسة تكشف الكهنوت في الخطاب الرشدي

القاهرة 24
ثقافة
الأربعاء 06/فبراير/2019 - 06:54 م

عقب ثورات الربيع العربي التي شهدتها بعض بلدان المنطقة، كان ميدان التحرير بالقاهرة، لا يخلو كل يوم جمعة من تجمعات المتظاهرين، وفي أحد هذه الأيام في شهر يوليو 2011، وقع في يدي منشور كان يوزعه أحد الأحزاب -صاحب توجه يساري- على المتظاهرين، وعندما بدأت قراءته لفتت انتباهي جملة في مقدمة الورقة تقول إن “الصحابي أبو زر الغفاري هو أول اشتراكي في الإسلام”، فاندهشت وتساءلت لماذا يُقْدِمُ حزب يدعي أنه يساري وتقدمي على الزج باسم صحابي جليل رحل عن عالمنا منذ أكثر من ألف عام في هذا المعترك السياسي؟!

ومنذ العام 2011، كلما تذكرت هذا الموقف يقفز إلى ذهني نفس التساؤل، إلا أن الباحث والناقد المصري مدحت صفوت قَدَّمَ الإجابة بكشفه عن عمليات الامتطاء الأيدلوجي التي مارسها مفكّرون عرب على التراث العربي بصفة عامة.

ففي بحثه المعنون بـ”صوت الغزالي وقرطاس ابن رشد.. عن العلاقة الشبحية بين أبي حامد وأبي الوليد”، والذي جاء كمقدمة لكتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتّصال» لفيلسوف قرطبة، الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب في أكتوبر الأول 2018، يقول “صفوت”: إن قراءات الباحثين العرب المشتغلون بالفكر والفلسفة للموروث ، ومحاولاتهم إعادة تحرير المُحدث طبقمنطق علمي رصين، لم تخلُ من إسقاطات أيديولوجية، “بلغت عند بعضهم أن تصير هي الخيط الناظم للرؤية الكلية للتراث”.

ويؤكد مدحت صفوت، في دراسته، على أن “ابن رشد ليس نقيضاً للغزالي”، معتمداً في قراءة الغزالي وابن رشد على أسلوب جاك دريدا واستراتيجياته التفكيكية، مشيرًا إلى أن “ابن رُشد عانى من التقول عليه وعلى وميراثه الفكري مثلما عانى في محنته ونكتبه مع الخليفة المنصور الموحديّ”، موضحًا أن “الجريرة الجديدة والواقعة في العصر الحديث وقعت بسبب (التنوير) والمحاباة لابن رُشد وليس (الجمود) أو الرفض للتفلسف وعلم الكلام. مبينًا أن حاجة كُتّاب التنوير “العربيّ” إلى آباء يأسسون لهم حداثهم المنشودة، جعلتهم يقعوا في كثيرٍ من الأحايين في شرك ليّ عنق الخطابات التاريخية وانتزاعها من سياقها، فصار “أبو ذر الغفاري شيوعيًّا ماركسيًّا! وأصبح ابن خلدون مفسرًا ماديًا للتاريخ، وصارت فرقة المُعتزلة عقلانيّةً تقدميّةً تُدافع عن “العدالة الاجتماعيّة”!

ويؤكد “صفوت” على أن الحاجة الرئيسة لابن رُشد الآن هي فهم ابن رُشد، والإحاطة برؤيته، وفلسفته أولًا في إطار زمنه وسياقه التاريخي بالقرن السادس الهجري، ثم نقد ابن رُشدٍ والرُشديةِ، أو حتى نقضهما وتقويضهما على النحو الذي يسمح بتجاوزهما وتخطيهما، وتقديم رؤية راهنة تكون بالتبعية ابنةً للسياق الحضاري والثقافي الذي نعيش فيه.

ويرى “صفوت”، في دراسته، أن التعصب للتراث والسلف ليس مقصورًا على السلفيين فحسب، وأن هناك بعض “التنويرين” و”العقلانيين” تنتمي أطرهم الفكرية للقرن السادس الهجري، من بينهم التنويريين الرُشديين في عصرنا الحديث.ويخصّ المؤلف ثلاثة من هؤلاء المفكّرين الذين وقعوا في هذا الشرك، وهم: الباحث المصري الراحل عاطف العراقي، الذي يعتبر “مدحت” أن “أدواته كانت إمّا سلفية وإمّا دوجماطيقية في أغلب جوانبها”، والراحل محمد عابد الجابري، الذي يرى “صاحب الورقة البحثية” أنه يحاول امتطاء التراث االرشدي ليمرر من خلاله تصورات غربية ومنتج فكري واجتماعي أوروبي- حسب تعبير المؤلف.

وثالث هؤلاء المفكرين العرب هو الدكتور مراد وهبة، الذي اتهّمه “صفوت” بـ”الأصولية العلمانية”، مشيراً إلى أن كل حواراته وأحاديثه عن العلمانية والتعددية “فشنك”، ويستند المؤلف في ذلك إلى تعبير الفيلسوف الفرنسي “روجيه غارودي” الذي يرى أن “الأصولية موقف الذين يرفضون تكييف عقيدة أو إيديولوجية مع الظروف الجديدة”.

ويرصد الباحث المصري، في دراسته، كيف طارد شبح الغزالي ابن رشد، وكيف سكن الإمام أبو حامد مؤلّفات أبي الوليد، ليس فقط في «تهافت التهافت» وإنّما في «فصل المقال» و«مناهج الأدلّة» أيضاً. ويصفه الباحث بـ«شبح يحرّك مؤشّر الرشدية»، ويضع مسار نقاشاتها، وربما المنطلقات وأحياناً النتائج، ليبدو المختلَف عليه هو عملية المعالجة، وطرائق التعاطي مع المعطيات، ليموت ابن رشد بعد أن تقلّصت مساحات نفوذه، ويبقى الغزالي واقعاً وشبحاً.

ويؤكد “صفوت” أن شبح الغزالي لا يتوقف عند الحضور الطيفي في مؤلفات ابن رشد، بل يتجسد في خطاب فيلسوف قرطبة حين يُكفر المجتهد المخطئ من غير أهل البرهان! إذ يبدو أن الحق في الخطأ مقصور على البرهانيين والفلاسفة فحسب عند ابن رشد، الذي يُلبس موقفه شرعيةً بالإشارة إلى حديث “إذا اجتهد الحاكم وأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر”، وتجنبًا للخطأ من غير أهل العلم فالبحث في “الأشياء العويصة” يجب أن يتوقف عند حدود أهل البرهان!، ويضيف “مدحت” أن الخطاب الرشدي يحمل أي شخص -من دون طائفة البرهان- عواقب وخيمة إذا حاول أن يجتهد وأخطأ، إذ لا يعذر لأنه –بحسب ابن رشد-“آثم مخطئ، سواء أكان في الأمور النظرية أو العملية”، وطالما لم تتوفر فيه شروط الحكم والبرهان “فليس بمعذور؛ بل هو إمّا آثم وإمّا كافر”.

ويعتقد “صفوت” أن ابن رشد لم يسلم من التكريس للسلطة المقدسة، وأن خطابه وقع في شرك الكهنوتية، وأن فيلسوف قرطبة نقل الكهنوت من الفقهاء إلى الفلاسفة، مشيراً إلى أنه “قسّم الناس بناءً على طرق تصديق الحق، إلى ثلاثة أوجه: البرهانية والجدلية والخطابية، وشرع في توضيح (مراتب الناس) بحسب الشريعة. استنادًا إلى تفسير آية (وادع إلى سبيل ربك). وهم على ثلاثة أصناف: صنف ليس من أهل التأويل أصلًا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وصنف وهو من أهل التأويل الجدلي، وهم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة، وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهم البرهانيون بالطبع والصناعة، أي: صناعة الحكمة والمنطق”.

ويوضح “صفوت” أن جوهر هذا التقسيم، الذي أجراه ابن رشد، قائم بالأساس على تصورات “أرسطو” حول طرائق التدليل، تحليلية برهانية وجدلية وخطابية؛ لكن ابن رشد استعار وجهة النظر الأرسطية ليكسبها سمة شرعية قرآنية.

وفي رأيي تكمن أهمية هذه الدراسة في أمرين، الأول هو حاجتنا الآن لمعالجة نظرتنا للتراث الفلسلفي العربي، لما له من ضرورة تحتاجها أوطاننا العربية، والأمر الثاني يكمن في ترتيب مدحت صفوت لأفكاره ورؤيته، وأسلوبه النقدي الذي فتح بابًا، كان يخشى الكثيرون من مثقفينا فتحه. الباب الذي جعلنا نرى التراث بشكل مختلف يستوعب النقد، ويضعه في سياقه الزمني، الأمر الذي سيدفعنا للتفكير في سبل تمكننا من تخطيه وتطويره بما يفيدنا نحن العرب، ويفيد البشرية كما فعل أجدادنا.

تابع مواقعنا