هل كانت صلاة العيد ردا على مختار جمعة؟
منذ الساعات الأولى لصبيحة عيد الفطر المبارك، والجدل دائر حول الصور الملتقطة لعدد من الحشود الهائلة التي زحفت لأداء صلاة العيد، في مشهد مهيب ومبهج في آن معا.
ومحل الجدل: هل المشهد طبيعي ومتكرر ككل عام؟
أم أنه زائد عن الطبيعي ويتضمن حس نكاية، ويستبطن رد فعل جماعي من الوجدان الشعبي، ضد وزير الأوقاف مختار جمعة إزاء مجمل أعماله خلال شهر رمضان، وما قبله؟
ولسنا بحاجة لحسم أي من الخيارين، مهما عدّد كل فريق وجاهة أسبابه فيما يعتقد.
فالبعض استند لمقارنة صور صلاة العيد في السنوات الماضية، عائدا بالمقارنة لصور العيد والتراويح لسنوات مضت، شاملا حتى أيام الرئيس مبارك، وما كانت تشهده من حشود هائلة في المساجد الكبرى بالقاهرة والإسكندرية.
ليقول إن هذا هو دأب المصريين مع صلاة العيد منذ بدأنا توثيقها بالكاميرات، وأن الأرقام طبيعية، ومحاولة تأويلها وتهويلها واستنطاقها مجرد ضرب من التزيد.
وآخرون استندوا لضخامة الحشود، وأحسوا أو لعلهم أسقطوا غضبهم من الوزير، فصارت الحشود حشود نكاية، وصارت الصلاة تعبيرا عن الغضب، وأضحى اجتماع الناس للتكبير والتهليل، كهزيم الرعد ردا على الوزير ذي الشعبية المتدنية!
وأكرر ليس المحك هنا ترجيح أي الرأيين مهما بدت وجاهة أسبابه، بمقدار ما الدلالة تنعقد من مجرد استدعاء الوزير طرفا في فهم وتحليل "صلاة العيد"، بالمسافة منه إيجابا وسلبا.
وهنا الشاهد الخطير، أن الوزير جمعة، بتصريحاته التي تقترب من الغلظة بأكثر مما تتسم بالسعي للانضباط، وأداءه ذي الطابع الشرطي لا الروحي، تحول هو نفسه للقضية وللموضوع.
ومن ثم يصير تقييم سياسات الدولة في الملف الديني، لا بالمنطق والعقل والمصلحة، وإنما بالمسافة من استساغة الناس من عدمها لمختار جمعة، وهو من أخطر الفخاخ السياسية التي يمكن أن تتعرض لها حكومة، بأن ينصرف الناس عن السياسات ومنطقها وبواعثها، وأن ينحبسوا في تقييم واضعها، الذي تنحصر صورته الذهنية في إطار شديد السلبية.
فقد تكرست صورة الوزير جمعة كمراقب شعائر (غليظ الكبد) ومنظم أداء (عسسي النزعة)، لا كرمز سماحة وعلم -بمنصبه الروحي الرفيع (افتراضا).
وهذه مسألة خطيرة جدا، حين يتحول الوزير لـ"فلتر"، ينظر الناس في وجهه قبل أن يقيموا بعقولهم السياسات والقرارات، فيرفضونها لرفضهم له ويتشككون فيها من تشككهم فيه.
وهو الذي أُجبر على عدة تراجعات على مدار الشهر الكريم، بينما يلملم وراءه -بذكاء وإخلاص- من يدرك خطورة ما يجري.
وبمعزل عن إيذاء الوجدان الديني العام، وهو ما أوغل فيه جمعة أيما إيغال، فلا يخفى على أحد أن واحدة من دعاية "الإخوان" توجهت للتشكيك في دين دولة ٣٠ يونيو، كما شككت في دين دولة يوليو برؤسائها الثلاثة.
وافتأتت بكل تبجح وإجرام على معتقد رموز الدولة، وحاولت تصويرهم للناس كارهين للإسلام محاربين له.
وكل هذا بالرغم مما يدركه القاصي والداني من التدين الشديد للسيد رئيس الدولة، الذي يورد ضمن كلماته المرتجلة أحاديث شريفة وأدعية نبوية مأثورة وآيات من الذكر الحكيم، يحفظها حفظا لا يقرأها قراءة المستدعي أو الذي جُهزت له!
غير أن وزير الأوقاف بتصريحاته الغليظة وبصداماته مع الوجدان الصوفي مثلا (متمثلا في الإصرار على إغلاق الأضرحة، التي يرجح كثيرون أنه في قرارة نفسه ينفر منها ويعتقد في بدعية زيارتها!)، وبإصراره على أداء خطبة الجمعة المذاعة رسميا منذ سنين بما يشكله من نفور في صدور الناس لفرضه ذاته بالإلحاح، مع عدم اشتهار تمكنه في العلم أو أخذه بمجامع القلوب إذا خطب، أو حتى تقديمه لطرح جديد في الخطاب الديني!
ومن ثم يبدو الرجل في مجال العلم الديني والقبول الروحي "صفر اليدين" إذا قورن بمعظم سابقيه، حتى لو حصل على العلامة الكاملة في الضبط والرقابة والتتبع والتعقب وتحسس أحوال المساجد علانية أو من طرف خفي.
وغير هذا مما يبدو غراما بإغلاق المساجد، وتولهًا بالتضييق على استخدامها في أي غرض كان، وشغفا بإرسال بعثات المراقبة التي بدت وكأنها تطارد المساجد والمصلين بأكثر مما بدت وكأنها معنية بالاطمئنان لسلامة الشعائر والإجراءات.
كل هذا -وغيره- من رفض صلاة التهجد والاعتكاف ومحاولة التضييق على صلاة العيد، ومن قبلها تراث من الشك في سياساته، جعل السيد وزير الأوقاف محل سخط عام، بشعبية هي الأقل مطلقا بين وزراء الأوقاف، وفق أي استدعاء بسيط لتاريخ أحدهم مهما كان عابرا أو قصيرا أو غير موفق حتى في الأداء العام.
ولا أتطرق هنا لشخصه الكريم -كإنسان-،حاشا لله، ولا يخالجني شك في حرصه على ضبط أداء القائمين المساجد، وهمه باستعادتها من أي المتطرفين الذين يتربصون الفرص للتسلل للمنابر.
بل مناط الأمر هنا، أننا إزاء وزير، وهو منصب مدني إداري بحت، يصيغ سياسات وينفذها، يواتيه التوفيق أو ينحسر عنه. يستوي في ذلك وزير الأوقاف مع وزير التموين مع وزير السياحة مع وزير الخارجية.
بيد أن الأمر يصير أكثر حساسية مع المناصب ذات الطابع الديني والروحي بما تستدعيه من حتمية التحلي بسمات شخصية بعينها فيمن يشغل هذه المناصب، جنبا إلى جنب مع التمكن العلمي والبراعة الإدارية.
ونحن إذ نقيم أداء وزير، أو بالأحرى وزارة الأوقاف، طيلة السنوات الماضية في ظل حرب ضروس لاستعادة الإسلام من دعاية المتطرفين، وفي ظل سعي محموم لتطوير الخطاب الديني، وفي ظل حاجة ملحة للسلوى بالدين والمعتقد في ظل ما تعاينه البشرية وتعاينه مصر خصوصا منذ نحو عشر سنوات من أحداث جسام (ثورات واضطرابات وأوبئة عالمية وإرهاب)..
في ظل كل هذا يبدو أداء الوزارة/الوزير،، عبئا على المشهد العام، بما يستدعي تدخلا سريعا وعاجلا.
مع كامل الاحترام لكل الذين يشيعون أن وزير الأوقاف – في سعيه للضبط والربط والميري- قد تمكن من التضييق على المتطرفين والرجعيين وحرمهم من ارتياد المنابر جهارا.
فالمعركة مع التطرف ليست معركة إدارية روتينية لضبط من يرتقي المنبر من عدمه فحسب، بل معركة عقول ووجدان جمعي، لا يبدو أن الجهد اللائق قد انصرف فيها لتنوير العقول، بمقدار ما انصرف الجهد لضبط الدفاتر!