«قلوب سليمة»
● من حوالي 15 سنة كنت بتدرب كصحفي جديد في صحيفة مصرية خاصة معروفة.. كان بيبقى مطلوب من كل واحد من المتدربين الجُدد كتابة من موضوعين لـ 3 موضوعات كل أسبوع بالتالي كان الصعب إنك إزاي تختار موضوعات تهم الناس أساسًا وتكون سبب إنك تتقبل بشكل دائم في الجريدة في نهاية شهور التدريب، لإن معيار التقييم هيكون الجودة مش أقل!.. بالنسبالي كان الأمر مش شاغلني لإني كنت ناوي من أول لحظة كده كده أستمتع باللي هكتبه.. في بداية الأسبوع الخامس كتبت موضوع صحفي عن حالة طفل من الفيوم اسمه "محمود" وكان عنده 13 سنة وقتها وكان مصاب بسرطان الدم وهو وحيد أبوه وأمه وما عندهومش غيره.. سبب اختياري للموضوع ده بالذات إن الولد ورغم مرضه وسنه وبرضه رغم إن كلام الدكاترة كان بيقول إن أسابيعه أو بالكتير شهوره في الدنيا مش كتير؛ بس هو صمم يعمل كذا حاجة حلوة.. قرر يحفظ القرآن!.. قرر يطلع الأول في المدرسة في امتحانات التيرم!.. قرر يكسب دورة بلاي ستيشن -( أو لعبةاليابانية القديمة زى ما كانوا بيسموها)- كان داخلها مع أصحابه.. والنتيجة؟.. نجح وحقق ده كله في خلال 8 شهور!.. صحيح إنه مع كل هدف بيتحقق كانت صحته بتضعف أكتر بس هو كان مبسوط.. محاور الحوار كانت عن إنه إزاى ومنين جاب القوة دي كلها!.. ردوده كلها كانت ردود إيمانية رقيقة بحتة لطفل قدر يشوف لُطف ربنا في المحنة وده سر القوة اللي كان عليها.. سألته هل لسه عنده أحلام تانية نفسه يحققها، رد إنه نفسه يسافر عمرة مع أبوه وأمه بس مش هينفع عشان ظروف بيتهم الصعبة وضيق الوقت.. نزلت القصة بالصور في موقع الجريدة وفي النسخة الورقية المطبوعة.. تاني يوم لما وصلت وقبل ما أدخل المكتب بتاع المتدربين في الجريدة فيه حد من الشباب المسؤولين عن السويتش قال لي إن مدام فلانة الفلانية اتصلت سألت عليك وسابت لك رقم تكلمها عليه!.. لحظة!.. مين فلانة الفلانية!، الرقاصة؟.. أيوا هي.. طب دي عايزة مني إيه!.. ناولني الورقة اللي فيها الرقم الأرضي وسابني وأنا غرقان في بحر حيرة عن سبب طلبها في التواصل معايا!.. لحد قبل ما اتصل بيها كنت فاكر إن الموضوع اشتغالة مش أكتر!.. كلمتها ولقيتها دخلت في الموضوع على طول!.. إزيك أنا قريت الموضوع وعايزة أسفّر "محمود" ووالده ووالدته عمرة بس بسرعة قبل ما الولد حالته تتدهور!، ومش عايزة حد يعرف الموضوع ده خالص حتى أهل الولد، ولو حد سألك في الجريدة ليه فلانة اتصلت بيك قول لهم إني كنت عايزة أخليك تعمل حوار مع حالة إنسانية في بلدنا عشان عجبتني موضوعاتك!.. كل الكلام اللي فات ده قالته في أقل من نص دقيقة وأنا بسمعها بس والحقيقة هي ما أدنتيش أى فرصة للرد وإدتني رقم المحامي بتاعها عشان أكلمه وننسق موضوع السفر سوا!.. حصل فعلًا وخلال 10 أيام أو أقل كان "محمود" وأهله في السعودية بيعملوا العمرة وخلال مدتها اللي طولت لـ أسبوعين كاملين قاعدين في فندق 5 نجوم على نفقة فلانة الفلانية!.. رجعوا من العمرة، ويشاء ربنا إن "محمود" يتوفى بعد رجوعهم بشهرين بس.. لما رحت أعزيهم والدته قالتلي إنها نفسها تعرف مين اللي طلعهم عمرة فأنا أعتذرت أقول الاسم فقالتلي طيب أنا عايزاك تعرف وتعرفّه أو تعرفّها إن أنا وجوزي و"محمود" الله يرحمه كنا بندعيله أو بندعيلها ليل نهار من قدام الكعبة يمكن أكتر ما دعينا لنفسنا!.. الست قالتها بصدق حقيقي وبكت.. خرجت من عندهم وأنا بفكر طول الطريق هو ممكن فلانة الفلانية تدخل الجنة بسبب دعوات الناس الطيبين دول؟.. يعني كل اللي فات أو حتى اللي جاى ممكن يتغفر بسبب الموقف ده؟.. آه وليه لأ!.. هي رحمة ربنا ليها حدود أصلًا!.. لأ.. هو أنا عارف طبيعة علاقتها بـ ربنا؟.. لأ.. مش ممكن تكون أحسن مني؟.. وارد طبعًا.. عمل الخير ده أنا كنت شاهد عليه والله أعلم باللي بتعمله تاني!.. مليون ممكن وممكن كلهم خلّوني استقر إن محدش فينا مؤهل للحكم على غيره ولا تدينه ولا درجة قربه من ربنا ولا إنسانيته.. عمل صغير ممكن تعمله قبل وفاتك يقلب مكانتك عند ربنا من حال لـ حال!.. تكون فاكر إنك قريب منه وإن تدينك حاكم كل تصرفاتك بس في لحظة تظلم حد أو تمشي في سكة غلط توديك لـ فعل يضر غيرك أو نفسك ممكن تلاقي نفسك في النار.. والعكس صحيح.. تفتكر إنك بسبب غلطاتك الكتير أكيد أكيد هتشرف في النار لكن عمل خير بسيط لا يُذكر ممكن تمسح كل غلطاتك بأستيكة ويبقى ليك مكانك في الجنة!.. وده جزء من عظمة ربك!.. رحمته.
● الإمام "أبو حنيفة النعمان" كان عنده جار.. جاره ده كان بيسكر وبيلعب قمار ومقضيها فواحش وبلاوى ليل نهار.. يعني بالبلدي خاربها.. "أبو حنيفة" نصحه كتير جدًا ودايمًا كان بيدعوه للصلاة والتوبة والتاني رافض على طول الخط!.. من الحاجات اللي تقدر تفهمها بسهولة برضه حتى لو محدش ذكرها ولا قالها إن أكيد "أبوحنيفة" حاول مع الراجل ده كتير على الأقل إن ماكنش بحكم حق الجيرة فعشان مايصحش إن "أبوحنيفة" اللي الناس بتجيله من كل مكان عشان يتعلموا منه يقصر في نُصح جاره!.. بس ماحصلش جديد للأسف وفضل الجار مصمم ومستمر في اللي بيعمله.. لحد ما "أبو حنيفة" رمى طوبته ويأس من إصلاحه، ودي كانت نقطة غريبة من الإمام المعروف دايمًا بـ باله الطويل وسعة صدره.. بعدها بمدة الجار ده مات وجت مراته طلبت من "أبو حنيفة" إنه يصلي عليه قبل دفنه!.. "أبو حنيفة" رفض وقال أنا مش هصلي على واحد كان عاصي ومصمم على أخطاءه بالشكل ده.. وفعلًا نفذ كلامه والناس دفنوا الراجل في مشهد غاب عنه بالكامل "أبوحنيفة".. بعدها بكام يوم "أبو حنيفة" شاف جاره في المنام موجود في الجنة بيتمشى في بساتينها وبينادي بجملة ثابتة وبيكررها بشكل مستمر: (قولوا لـ أبو حنيفة الحمد لله الذي لم يجعل الجنة بيده).. (قولوا لـ أبو حنيفة الحمد لله الذي لم يجعل الجنة بيده).. (قولوا لـ أبو حنيفة الحمد لله الذي لم يجعل الجنة بيده).. قام الإمام من النوم مفزوع وجرى على زوجة جاره يسألها هو جوزك كان بيعمل إيه تاني في حياته غير المعاصي والسُكر اللي إحنا كنا بنشوفه عليهم طول الوقت!.. قالت له إنه كان بيجيب بشكل دوري أكل لـ لأيتام الحي وبيطبطب على رؤوسهم ويبكي ويقول ادعوا لعمكم.. بس خلاص!.. تبقى هي دي الإجابة!.. دعوة طفل من الأطفال دول هي السبب!.. مسحت كل اللي فات؟.. حصل!.. وقتها ندم "أبو حنيفة" وفهم إن الجنة مش في إيده ولا إيد أى حد وإنه وحده ربنا ورحمته هما الفيصل في ده.
● كلنا بنغلط وبنحاول نصلح من نفسنا ونتخبط يمين وشمال كتير بس بتفضل عندنا الحتة اللي بيننا وبين ربنا واللي مايعرفهاش غيره سبحانه وتعالى.. عمل خير واحد أنت شايفه صغير ومايستحقش ممكن يكون هو ده اللي يشيل عنك جبل ذنوب مالهاش آخر، وتصرف واحد فيه ضرر أو شر لغيرك ممكن يكون هو ده اللي ينقل مكانك ومكانتك من فوق لـ تحت!.. هتكتشف مع الوقت وبالتجارب إن أفضل خدمة تقدمها لنفسك هو تركيزك عن إن إزاى تبقى عندك المساحة الحلوة اللي بينك وبين ربنا، وإنك في نفس الوقت ماتحكمش على مصير ولا علاقة غيرك بـ ربنا!.. هتكتشف إن أصحاب القلوب السليمة هما اللي فاهمين سبب وجودهم في الدنيا صح وإن معركتهم الحقيقية مع إنهم يبقوا النهاردة أفضل من امبارح وبكره أفضل من النهاردة.. في كل الأديان وبكل اللغات "ربك رب قلوب ونوايا ومحدش هيتحاسب غير على عمله ".. النبى "محمد" ﷺ قال: (إن الله لاينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) رواه مسلم.. الناس بيحكموا عليك من بره وده طبعهم اللي مش هيتغير، وربك بيحكم عليك من قلبك وده ميزان عدله اللي مش هيتغير.