مشروع مصر الثقافي في العقد القادم
مع مرور العمر والتعمق والقراءة في تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والثقافي، والسير عبر جغرافية الوطن الممتدة من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب، والانغماس في حياة المجتمع والناس، يكتشف المرء أن لمصر أكثر من وجه، وأكثر من تاريخ وشعب، وأن لها ظاهرا وباطنا، وجوانب ضعف وأمراضا اجتماعية مستوطنة، وجوانب قوة وقيما ثقافية وحضارية ثرية ومتأصلة.
وهذا الاكتشاف يُحتم على عاشق مصر الأصيل، المهموم بماضيها وحاضرها ومستقبلها، السعي لفهم حقيقتها وشخصيتها ومجتمعها وثقافتها وفنونها على نحو شامل، والتمييز بين الحقيقي الأصيل الإيجابي في ثقافتها وفنونها ومنظومتها القيمية والأخلاقية وشعورها وفكرها الديني وبين الزائف والمُشوه والمعوق الدخيل.
وكذلك السعي للوقوف على سر استمرارها ووجودها ووحدتها، ومعرفة ما هي جوانب القوة في تاريخها وثقافتها وعادتها وتقاليدها، التي يجب الاستثمار فيها والبناء عليها، وما هي جوانب الضعف التي يجب هدمها والتخلص منها وتجازها.
وهذا يدفعني للقول إننا صرنا اليوم بعد أكثر من قرنين على وضع علماء الحملة الفرنسية لكتاب وصف مصر- الذي يُعد أشهر المؤلفات الحديثة التي تناولت بقدر كبير من الشمول والتنوع تكوين وثقافة وفنون مصر عند مطلع القرن الثامن عشر الميلادي - في أشد الحاجة لوصف مصر من جديد بعد المتغيرات الرهيبة التي طرأت على المجتمع المصري وعاداته وتقاليده وثقافته وفنونه في القرنيين الماضيين بصفة عامة، والخمسين سنة الأخيرة من تاريخ مصر بصفة خاصة.
نعم، نحن نحتاج لمشروع علمي وطني تحت إشراف الدولة، وبعيدًا عن أهواء ومطامع ومخططات المستعمرين والباحثين الغربيين، لصنع "كتاب وصف مصر" من جديد، ببحث علمي رصين، وشغل ميداني على الأرض، لكن بتمويل مصري ولهدف وطني، هو معرفة أين كنا؟ وكيف أصبحنا؟ وما هو مستقبلنا مجتمعنا وفنوننا وثقافتنا؟ وكيف نستعيد مكانتنا ودورنا وريادنا في المنطقة والعالم؟
وأنا على يقين أننا سوف نُعيد من خلال هذا العمل المؤسسي المتكامل، الذي أتمنى أن يكون مشروع الدولة المصرية الثقافي في العقد القادم، اكتشاف بلدنا ومتغيرات مجتمعنا، وتوثيق ودراسة ثقافتنا وفنوننا وتراثنا المادي وغير المادي، كما فعل الغرباء والمستشرقين، لكن بإرادة مصرية خالصة، وبعيون وعقول مصرية عاشقة، وبشغف معرفي كبير.
وبإنجاز هذا المشروع، سوف يكون لدينا كتاب وصف مصر الجديد، الذي سيُصبح في المستقبل ميراثنا للأجيال المُقبلة، والذي سيكون في الحاضر قيمة مضافة للدولة المصرية؛ فالمعرفة الرصينة الشاملة تدعم قوة أجهزة ومؤسسات الدولة، وتوسع نطاق رؤيتها، وتُزيد قدراتها على الاستفادة من الماضي، وفهم الحاضر، وصنع المستقبل.