مارية أسطورة الأنوثة المتصدعة
لا يوجد ما هو أجمل من صحبة امرأة كريمة في عواطفها ومشاعرها، وفي ذات الوقت امرأة مفكرة واعية، لديها شيء تقوله، وتملك شجاعة قوله، وتعرف كيف تقوله؛ ولعل هذا هو سر عشقنا في مجال الأدب للروايات التي يكون السرد فيها مجسدًا للعالم وتفاصيله وعلاقاته وأحداثه من خلال عيني ووعي ولسان امرأة.
ولهذا أعود دائمًا لقراءة رواية "النبطي" للدكتور يوسف زيدان، التي تُعد إلى جانب روايته "عزازيل" درة التاج في مشروعه الروائي، وربما يشكلان معًا القاعدة التي تأسس عليها حضوره ونجاحه الأدبي.
وسر تلك العودة أن الراوي في هذه الرواية هو بطلتها المصرية "مارية" التي تحكي حكايتها وحكاية حبيبها "النبطي" الذي جمع القدر بينهما في الزمان والمكان الخطأ، وفي سياق لحظة فارقة بامتياز في تاريخ المنطقة العربية الديني والسياسي، وفي ظروف خاصة وعامة جعلت حبها له حبًا مستحيلًا.
وقد أجاد يوسف زيدان في رسم ملامح النبطي ومارية بالقدر الذي جعل حضورهما الإنساني طاغيًا، وممتدًا خارج أفق النص الروائي، ليصبحا شخصيتين من لحم ودم، نحس بوجودهما، ونتحاور معهما، نحزن لحزنهما، نفرح لفرحهما، ونتفهم ونتقبل ضعفهما الإنساني، ولحظات جموحهما وتمردهما واستسلامهما ويأسهما.
وقد جسد النبطي بالنسبة لي نموذجًا مثاليًا للبطل التراجيدي الذي جاء بعد أن ذهب زمانه، ليُدافع عن قضية محتضرة خذلها جميع أنصارها، ومع ذلك ظل حتى النهاية متمسكًا بقضيته وقناعاته ومعتقداته، ومصممًا على البقاء بمفرده بأرض أجداده، يأبى أن يهاجر ويرحل عنها إلى مكان آخر مهما كانت المخاطر.
وهو سلوك يُذكرنا بـاختيار "ابن نوح" عند اقتراب الطوفان، عندما "قال لا للسفينة وأحب الوطن"، كما حدثنا عنه الشاعر الراحل أمل دنقل في قصيدته “مقابلة خاصة مع ابن نوح”.
ويذكرنا أيضًا بـاختيار "تليماخوس" ابن أوديسيوس (عوليس) بطل ملحمة الإلياذة اليونانية الشهيرة، الذي استلهمه الشاعر الراحل محمود درويش في قصيدته الرائعة "في انتظار العائدين" عندما قال:
أنا ابن عوليس الذي انتظر البريد من الشمال
ناداه بحّار ولكن لم يسافر
لجم المراكب وانتحى أعلى الجبال
يا صخرة صلّى عليها والدي لتصون ثائر
أنا لن أبيعك باللآلي
أنا لن أسافر
أنا لن أسافر
أنا لن أسافر.
أما البطلة مارية فقد جسدت بالنسبة لي نموذجًا مثاليًا للأنوثة المتصدعة - بفعل ظروف حياتها الملتبسة وتجاربها السيئة - رغم ثرائها الداخلي؛ فهي أنثى مكتملة، بالغة الخصوبة، لديها طاقة كبيرة على الحب والعطاء، وفائض من الأحلام، لكنها لم تعرف في حياتها معنى التحقق والارتواء النفسي والجسدي، بعد أن زوّجوها للتاجر العربي "سلومة" بسماته وسلوكياته الكريهة.
ولهذا عاشت بعد أن رحلت معه من مصر إلى مرابط أهله في بلاد الأنباط، أشبه ما تكون "بالأرض الشراقي" المليئة بالتشققات والتصدعات، والمحرومة من ماء الحياة، ومن أن تثمر وتُعطي كما تريد، لمَن تريد.
ولهذا حزنت كثيرًا على مارية التي ظلت في حيرة من أمرها، لا تمتلك زمام حياتها، ومع ذلك لم تتمرد أو تَثُرْ وترفض ظلم الأمر الواقع المفروض عليها، بل قضت عمرها تُمنِّي نفسها بزمن للحب والارتواء والتحقق الوجودي والأنثوي، وهو زمن لم يأت مطلقًا.
ومن مفارقات الأقدار وقسوتها على مارية، أن الرجل الوحيد الذي أحبته وتمنته ورغبت فيه، بعد أن وجدته رجل أحلامها، كان هو "النبطي" أخو زوجها، والبطل التراجيدي المهزوم الذي يوشك عالمه على التصدع والزوال.
ورغم أن كل أمنياتها في حبها له، كانت محصورة في ألا تُحرم من رؤيته، وتظل قريبة منه، فقد كُتب عليها أن ترحل مع زوجها وأهله من جديد لمصر بعد فتح العرب لها، واعتناق زوجها للإسلام الدين الجديد، لتترك النبطي في أرضه التي عشقها مثل نسر كسير الجناحين يستعد لموته المحتوم.
ولهذا ظل النبطي، رجل خيالها وحلمها وفردوسها الُمحرم والمستحيل، وظل تصدع مارية النفسي والجسدي طابع حياتها ومصيرها، ولهذا وجدناها تقول في نهاية الرواية: "كان النبطي مُبتغاي من المبتدأ، وحلمي الذي لم يكتمل إلى المنتهى، ما لي دومًا مستسلمة لما يأتيني من خارجي، فيستلبني.. أحجر أنا حتى لا يحركني الهوى، وتقودني أمنيتي الوحيدة؟ هل أغافلهم، وهم أصلا غافلون، فأعود إليه لأبقى معه، ومعًا نموت، ثم نُولدُ من جديد هُدهُدين".